نشر بتاريخ: 2025/11/03 ( آخر تحديث: 2025/11/03 الساعة: 12:54 )

حين ينخفض منسوب الخوف.. الاقتصاد الاسرائيلي في اختبار التغيير السياسي

نشر بتاريخ: 2025/11/03 (آخر تحديث: 2025/11/03 الساعة: 12:54)

الكوفية لم يعد المشهد الاقتصادي الإسرائيلي كما كان قبل الحرب؛ فالحرب الطويلة والمفتوحة، من غزة إلى الشمال، أخرجت الاقتصاد من مساره الطبيعي، وأعادت تعريف أولويات الدولة والمجتمع، إسرائيل التي اعتادت أن تعيش بين "الازدهار التكنولوجي" و"اليقظة الأمنية"، تواجه اليوم واقعًا مركّباً، تُحاصرها فيه التكاليف المالية، وتضغط عليها المخاطر السياسية والاجتماعية، في لحظة هي عملياً لحظة ما قبل الانتخابات.

الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يبلغ ناتجه المحلي الإجمالي نحو 610 مليار دولار، دخل مرحلة تباطؤ واضحة منذ اندلاع الحرب؛ البنك المركزي خفّض توقعاته للنمو إلى ما بين 2 – 3%، بعد أن كانت فوق 4% في سنوات الاستقرار النسبي، ومع ذلك، لم تكن الأرقام المجردة سوى سطح المشهد؛ فالمعضلة الحقيقية تكمن في توازن هش بين عبء الإنفاق العسكري وبين الركود المدني.

فقد بلغت التكلفة الإجمالية للحرب حتى الآن قرابة 250 إلى 300 مليار شيكل، وفق تقديرات وزارة المالية الاسرائيلية والبنك المركزي، وهي نسبة ضخمة تعادل نحو 15% من الناتج المحلي، هذا الرقم لم ينعكس فقط في ارتفاع العجز المالي إلى مستويات مقلقة، بل في انكماش قطاعات رئيسية كالسياحة والبناء والتجارة، أما القطاع التكنولوجي، الذي كان وما زال يمثل "عصب المعجزة الإسرائيلية"، فقد بدأ يتأثر بانكماش الاستثمارات الأجنبية وتراجع ثقة الأسواق.

ومع توسع دائرة الاستدعاءات العسكرية الاحتياطية وتعليق تصاريح عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين، واجهت قطاعات الزراعة والبنية التحتية نقصاً حاداً في الأيدي العاملة، وفي المقابل، ارتفعت فاتورة الاقتراض الحكومي، بعد أن خفّضت وكالات التصنيف الائتماني تقييم إسرائيل وهددت بخفض إضافي إن استمرت الحرب والاضطرابات السياسية.

هذه الوقائع الاقتصادية لم تمرّ بهدوء في الشارع الإسرائيلي؛ فالمجتمع الذي طالما كان مستعدًا لتحمل التقشف المؤقت تحت شعار "الأمن أولاً"، بدأ يتململ مع تراجع الخطر الأمني المباشر، وهنا، يمكن القول إن المعادلة النفسية داخل إسرائيل قد انقلبت؛ "عندما ينخفض منسوب الخوف، يرتفع منسوب الغضب".

هذه الجملة تختصر التحول الأعمق في المزاج الإسرائيلي، فكلما تراجعت أصوات الصواريخ، ارتفعت أصوات التساؤل والمحاسبة، وبدأ المواطن الإسرائيلي يسأل بوضوح: من المسؤول عن الفشل؟ من سيدفع ثمن الحرب؟ ولماذا ندفع ضريبة تضخم بينما المستوطنات تتوسع وموازنات الأمن تتضخم؟ في الحرب، تُكتم الأسئلة باسم "الوحدة"، أما في الهدوء، فتتحول الوحدة إلى نقمة على القيادة التي أخفقت في تحقيق "الانتصار المطلق الموعود".

وإذا ما استمرّ الهدوء النسبي في غزة ولبنان، وبدأت خطة "الرئيس ترامب" الإقليمية بالتحرك لتثبيت ترتيبات ما بعد الحرب، فإن الإسرائيليين سيدخلون فعلاً مرحلة ما بعد الخوف، وحينها، سيشعرون بأن خطر الوجود قد انزاح مؤقتا على الأقل، وأن زمن الطوارئ انتهى، لتبدأ مرحلة الحساب الداخلي، وسيتحوّل النقاش من "كيف ننتصر؟" إلى "من خسّرنا ولماذا؟"، وسيتقدم العامل الاقتصادي على الأمني في ترتيب أولويات الناخبين.

في هذه الحالة، سيتراجع سحر اليمين المتشدد الذي بنى شرعيته على الخوف، وستبدأ الطبقة الوسطى بالبحث عن بدائل سياسية قادرة على إدارة اقتصاد ما بعد الحرب بفعالية، فالضغوط المعيشية باتت خانقة، والأسعار تتصاعد، والدين العام يقترب من مستويات تاريخية، بينما الدعم الأمريكي يظل محصورًا في الجانب العسكري دون إنعاش مالي حقيقي، حيث أنه ورغم أن واشنطن ما زالت تمد إسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي، فإن "الخزنة المفتوحة" التي يتوقعها اليمين الإسرائيلي لن تكون واقعية في عهد ترامب، المعروف بميله إلى الصفقات لا إلى المنح المجانية.

كل ما سبق ذكره، يخلق أرضية جديدة في الداخل الإسرائيلي؛ أرضية اقتصاد مثقل ومديونية مرتفعة، مجتمع أنهكه الخوف ويريد العودة إلى حياة طبيعية، وحكومة فقدت هيبتها الأخلاقية والسياسية بعد إخفاقات السابع من أكتوبر وما تلاها.

في مثل هذه الظروف، يصبح التغيير السياسي ليس فقط احتمالًا، بل حاجة وجودية داخل النظام نفسه، فالدولة التي قامت على مبدأ "الأمن قبل كل شيء" قد تكتشف أن استمرار اليمين المتشدد صار عبئاً على أمنها واستقرارها الاقتصادي معًا، وكلما طال الهدوء، كلما زادت احتمالات أن يتحوّل الغضب الشعبي إلى طلب واضح لإعادة تركيب المشهد السياسي، إما عبر انتخابات مبكرة، أو من خلال تفكك الائتلافات الداخلية.

بالمحصلة، إسرائيل دخلت عمليًا عام الانتخابات، لكنّها تدخلها مثقلة بالخسائر الاقتصادية، ومحمّلة بأسئلة أخلاقية لم تُطرح بهذا العمق منذ عقود، والأرجح، أن لحظة الهدوء القادمة لن تكون لحظة راحة، بل لحظة مراجعة قاسية، فحين ينخفض منسوب الخوف، لن يجد اليمين ما يستند إليه سوى ذاكرة الحرب، بينما سيرتفع منسوب الغضب ليطالب بتغييرٍ يعيد تعريف "من يحكم إسرائيل ولماذا؟".