تفكّك بنية المشروع الإسرائيلي: مسألة التفوّق والقوّة
نشر بتاريخ: 2025/11/06 (آخر تحديث: 2025/11/06 الساعة: 18:00)

لم نعثر حتى تاريخه على وثيقة واحدة لا تعتمد في جوهر المشروع الصهيوني لتحقيق إستراتيجيّاته على منطق القوة والتفوق، ولم نجد من باب أولى لدى المشروع الإسرائيلي، لا قُبيل إقامة الدولة الصهيونية، ولا في مرحلة قيامها، ولا بعد قيامها سوى منطق القوة والتفوق، ولا يوجد في الواقع في عشرات، وربما مئات الوثائق التي تتعلّق بالعقيدة الأمنية الإسرائيلية سوى منطق القوة والتفوق، ولم تكن التعديلات التي جرت على هذه العقيدة في مراحل معيّنة، وخصوصاً بعد الحروب العدوانية الكبيرة، أو بعد بعض الإخفاقات الأمنية سوى الاستعاضة عن القوة والتفوق بالمزيد منها، وبأشكال أكثر إيغالاً في العنف والقتل والتدمير.

ولم نجد حتى يومنا هذا وثيقة واحدة حتى على صعيد المحاولة، مجرّد محاولة للتفكير في بدائل سياسية، مهما كانت متواضعة عن عقيدة القوة والتفوق.

ليس هذا كله فقط، بل إن المفارقة الكبرى على هذا الصعيد هي أننا لم نجد لدى «الغرب» الذي جهّز على مدى أكثر من خمسة عقود من العمل «المثابر والمضني» لقيام دولة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين وثيقة واحدة، مجرّد وثيقة واحدة لا تتحدث عن «ضرورة» بقاء هذه الدولة في موقع القوة والتفوق، بل واعتبر «الغرب» الذي عمل جاهداً لقيام الدولة الإسرائيلية على اعتبار تفوقها هو بمثابة مسلّمة «غربية» شاملة لا تقبل النقاش تحت أي مسوّغ أو حجة أو أسباب من أي نوع كان.

وحيث يتضح اليوم أكثر من أي وقت مضى أن «الغرب» عندما قرر دعم المشروع الصهيوني بقيام دولة هذا المشروع على الأرض الفلسطينية قد أعدّ نفسه، وتعهد بالإبقاء على هذا التفوق لضمان حماية مصالحه في هذا الإقليم الهام والخاص في أهميته، وحرص على تقبّل كل ما قام به الكيان الكولونيالي من جرائم قبل قيامه، وأثناء قيامه، وغطى على ما قام به من عدوانية وتوسّع وإجرام بعد قيامه، ليس فقط بالوسائل الدبلوماسية والسياسية، وإنما بمدّه بكل عناصر هذه القوة وهذا التفوق بأكثر الوسائل العسكرية والأمنية تطوراً وحساسية، وظلوا يعتبرون أن الحفاظ على هذه الحالة هو «التزام» ثابت ومستقرّ غير خاضع للتراجع عنه، أو مراجعة كلفته الاقتصادية، بل ومردوده السياسي كله.

ومن هنا برز شعار نتنياهو، وفي هذا السياق بالذات جاء هذا المفهوم ليعبّر عن صياغة مكثّفة عن هذا الواقع.

هذا الشعار والذي تحوّل إلى مفهوم مكرّس وشائع ومتفهّم، أيضاً، والذي عبّر عنه «كحلّ» لكل مشاكل أو أزمات، وكنهج هو بمثابة رؤيا وإستراتيجية نابعة من عقيدة ثابتة، ومن واقع «تمّ» التحقق من صحته على مدار عقود كاملة من الممارسة.

هذا الشعار أو المفهوم هو: ما لا نتمكّن من تحقيقه بالقوة والتفوق يمكننا تحقيقه بالمزيد من هذه القوة وهذا التفوق. وإذا كان هذا الشعار/ المفهوم، قد خضع لبعض الريبة والشك في بعض مراحل الإخفاق أو الفشل المؤقّت أو الجزئي، أو الطارئ والعارض، فقد أصبح هذا الشعار/ المفهوم خارج نطاق هذا الشك بعد أن تمكّن «اليمين الكاهاني» من الوصول إلى الحكم، ومن بدء التحكّم بمفاصل «الدولة» الصهيونية، وبعد أن تحوّلت إستراتيجيات القوة والتفوق إلى إستراتيجية لحكومة كاملة، ولـ»ائتلاف فاشي حاكم»، وتحوّلت من زوايا كثيرة إلى ثقافة سائدة في المجتمع الإسرائيلي، وليس مجرد إستراتيجية حزبية لمجموعات سياسية هامشية أو معزولة.

لم تتعرض بنية القوة والتفوق في الدولة الإسرائيلية لاهتزازات حقيقية إلا جزئياً في «حرب أكتوبر ــ 1973»، وكان هذا الاهتزاز مؤقتاً ومحدوداً، أما الإخفاقات التي تعرضت لها البنى العسكرية والأمنية في لبنان عام 2000، وعام 2006، وقبلها في بعض المعارك الساخنة في جنوب لبنان مع القوات الفلسطينية عام 1981، وما بعد الاجتياح/ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، فلم تكن في الواقع تمثل مثل هذا التهديد، بصرف النظر عن سخونة المعارك آنذاك، وبصرف النظر عن حجم الإخفاقات الصهيونية، وبصرف النظر عن حجم البطولات والنجاحات الكبيرة التي حقّقتها فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية.

الانقلاب الدراماتيكي في بنية القوة والتفوق حدث أثناء وبعد «طوفان الأقصى»، بصورة ليس لها مثيل، وبصورة غير مسبوقة، وحدث على مدار سنتين كاملتين من الحرب الإبادية والتجويعية.

بطبيعة الحال فإن أول ما يخطر على البال على هذا المستوى هو الكيفية التي انهارت من خلالها «فرقة غزّة» من جيش الاحتلال، والعجائبية الإعجازية التي انهارت من خلالها أكبر وأهمّ بنية استخبارية موجودة في الشرق الأوسط، وهناك من يرى ويعتقد أنها أكبر منظومة رقابة وتحكّم وتجسّس وتنصّت في العالم كلّه، أو أنها واحدة من أكبر البنى العالمية، وهي تفوق وتتفوق على بنى مناظرة لها في كبريات الدول «الغربية» الأوروبية، وقد تكون بنية أميركا، والصين، وروسيا هي الاستثناء النسبي الوحيد على هذا الصعيد.

لن نتأكد أبداً من معرفة «ألغاز» هذا الانهيار قبل أن تبدأ لجنة تحقيق رسمية، محايدة ومستقلّة، التحرّي والاستقصاء الدقيق والتفصيلي، والبحث المهني القادر على كشف أهم ملابسات هذا الانهيار.

لكن المؤكّد ومنذ الآن أن دولة الاحتلال ولمدة ست ساعات كاملة كانت قد فقدت القدرة على الإفاقة من هول الصدمة، وكانت قد عانت من شلل حقيقي في تحديد شكل التصرّف، وفي تحديد أهداف الردّ، وفي تحديد أولويات التحرك الميداني القادر على امتصاص الضربة الزلزالية التي وُجّهت لكامل منظومة القوة والتفوق الإسرائيلية.

قررت دولة الاحتلال أن تحوّل المعركة أو الحرب إلى «أمّ المعارك والحروب»، وأطلقت عليها «الحرب الوجودية»، واعتبرت أن الانتصار فيها هو بمثابة «الاستقلال الثاني» للدولة الصهيونية، ومهّدت لحرب إبادة لا هوادة فيها، وفبركت روايات وهمية عن «الاغتصاب وفصل رؤوس الأطفال»، وأصبحت تعدّ وتجهّز نفسها لحرب طويلة قالت إنها ستستغرق عدّة شهور، وتقاطرت قيادات «الغرب» إليها لتجديد الالتزام «لأمنها» الذي أصيب بنكسة مدمّرة.

شحنت دولة الاحتلال جيشها ومجتمعها، وكل الحلفاء دون استثناء للحرب الإبادية بكل ما يملك جيشها من قوة وتفوق، وحصلت منهم على التفويض الكامل، وعلى كل سلاح تحتاجه، بما في ذلك الدعم المباشر من قبل أكثر من 18 دولة «غربية» وغير «غربية» على المستوى الاستخباري، وبدأت الحرب العالمية الكبرى على القطاع.

تكسّرت رماح جيش الاحتلال في المواجهات البرّية الأولى، وتحوّلت قوته البرّية إلى أهداف سهلة لمقاتلي المقاومة الفلسطينية، وبدأت علائم الفشل الكبير تظهر عليه بعد أقل من ثلاثة أشهر من القتال البرّي.

لم يكن أمام القيادات السياسية والعسكرية والأمنية من طريق سوى الهرب إلى حرب جديدة «لتبرير» الفشل في القتال البرّي في القطاع.

هربوا إلى جبهة لبنان، وقصفوا ودمّروا مستخدمين أقسى أشكال القوة التدميرية قبل أن يبدأ القتال البرّي، وكان الفشل الأكبر عندما تحوّلت المعركة في الجنوب إلى معركة محكوم عليها بالإخفاق المحتوم، فهربت دولة الاحتلال بمساندة ومشاركة أميركا لضرب إيران دون أن تحقق أي هدف إستراتيجي حقيقي هناك.

لم تنجح دولة الاحتلال بحسم الملفات، وفشلت في تغيير معادلة الصراع بالرغم من كل عناصر القوة والتفوق التي لديها، واستطاعت أن تحقق نتائج مبهرة على مستوى التدمير، وعلى مستوى الاغتيالات، واستنفدت كل عناصر القوة والتفوق، حتى على هذا الصعيد في محاولة لتغيير معادلة الصراع لكنها فشلت حتى الآن، ولا مجال للنجاح مستقبلاً لأن الأمور تسير نحو مزيد من أزمات هذا التفوق الذي ثبت عجزه، ومن أزمات هذه القوة التي لم تحسم المعادلة.

الذي تم حسمه هو بعض أشكال الصراع ووسائل استمرار الحرب العدوانية، والذي تغيّر هو بعض قواعد اللعبة والاشتباك، والذي تغيّر هو صورة الحرب وصور المعارك، لكن هذا كله أصبح يضيف على عجز بنية التفوق والقوة المزيدَ من الأعباء، والمزيد من الأسئلة التي ليس لها أجوبة، وتحوّل الإيغال والتغوّل في استخدام عناصر هذا التفوق، وهذه القوة إلى قيود جديدة عليها بدلاً من أن يكون مدخلاً للمزيد من الاستثمار فيها.

هجوم «الطوفان» أدمى البنية العسكرية والأمنية بصورة لا شفاء منها.