غزة بعد الصمت ..
نشر بتاريخ: 2025/10/27 (آخر تحديث: 2025/10/27 الساعة: 19:48)

لم تعد غزة كما كانت قبل العاصفة،

ولم يعد الصمت فيها راحة، بل صار لغة أُجبرت الأرواح على التحدث بها.

المدينة التي اعتادت على الضجيج باتت تتنفس ببطء كأنها تخاف أن يسمعها أحد.

الناس يسيرون بين الركام بوجوه جامدة، يبتسمون بارتباك حين يلتقون وكأنهم يعتذرون عن بقائهم أحياء.

حتى الأطفال الذين كانوا يملأون الأزقة ضجيجًا صاروا يتهامسون كمن يخشى أن يوقظ ذكرى.

يحاول كل إنسان في غزة أن يبدو طبيعيًا ويتصرف كما لو أن الحياة عادت،

لكن الحقيقة أن لا أحد طبيعي هنا.

الحرب لم تنتهِ، إنها فقط غيرت شكلها وانتقلت من السماء إلى الصدور.

كل ما حولك يحمل آثارها؛ الركام والعتمة ورائحة البارود التي لم تغادر الجدران بعد.

الكل هنا يحتاج إلى ترميم النفوس قبل البيوت، والقلوب قبل الطرقات.

من يضمّد هذا الجرح الجماعي؟ من يدعم هؤلاء نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا؟

الأرواح مجروحة، والأنفس مخذولة، والأجساد هزيلة.

لكنهم يحمدون الله ويدّعون أنهم بخير لأنهم لا يملكون خيار الانهيار.

الشتاء يقترب، ومعظم أهل غزة ما زالوا في الخيام؛ أطفالًا ونساءً وشيوخًا،

ينتظرون دفئًا لن يأتي، وسقفًا لن يُرمَّم قريبًا.

من يعيد الحياة لمن فقد عائلته؟

من يعيد لليتامى آباءهم، وللأرامل أزواجهم، وللجرحى أطرافهم التي بُترت؟

من يعيد العيون التي اقتُلِعت، والأشجار التي اقتُلِعت معها ذاكرة الأرض؟

حتى حيوانات غزة وطيورها لم تنجُ، كأن الموت قرر أن يشمل كل ما يتحرك.

حياة كاملة أُعدِمت، والعالم يتحدث عن مشاريع سياسية ومصالح دولية،

وعن مراحل الإعمار وكأننا نتحدث عن مشروع هندسي لا عن بشر أحياء،

ولا شيء على الأرض بعد.

القلق يملأ القلوب، والخوف من عودة الحرب لا يفارق أحدًا.

من يضمن عدم نكث الوعود؟ ومن يثق بالضامن المتحيز، وهو ذاته شريك في الخراب؟

في غزة اليوم، الصمت ليس هدوءًا، بل مقاومة من نوع آخر.

الناس لا يتكلمون لأن الكلمات صارت أضعف من وجعهم.

لكن خلف هذا الصمت تنبض إرادة عنيدة،

إرادة مدينة قررت أن تبقى مهما تعددت أشكال الموت من حولها.

وربما بعد الصمت ستولد غزة من جديد،

لا كما كانت، ولا كما يريدون، بل كما أرادتها أرواح شهدائها.

والله غالب.