في لحظةٍ مشبعةٍ بالرموز أكثر من الوقائع، خرج الأسير الفلسطيني نادر صدقة من السجن الإسرائيلي بعد أكثر من اثنين وعشرين عامًا من العتمة، حاملاً في ملامحه تاريخًا يفيض بالتناقضات وبالأسئلة التي تضرب في عمق الوجدان الفلسطيني: كيف لرجلٍ من الطائفة السامرية الصغيرة، تلك التي لا يتجاوز عدد أبنائها بضع مئات في جبل جرزيم ونابلس، أن يتحول إلى أيقونة وطنية يتحدث عنها الشارع الفلسطيني كما يتحدث عن أسرى خيرة المقاومين؟ وكيف تسقط كل الحواجز الطائفية والدينية حين يكون الوطن هو السقف الأخير، والكرامة هي المعيار الوحيد للانتماء؟ إن قصة نادر صدقة ليست مجرّد سيرة أسير تحرر من قيوده، بل هي مرآة مكبّرة للواقع الفلسطيني الراهن: واقع تتشابك فيه الذاكرة بالسياسة، والهوية بالمقاومة، والخذلان بالأمل.
وُلد نادر صدقة عام 1977 على سفوح جبل جرزيم في نابلس، وسط جماعة السامريين التي حافظت على لغتها العبرية القديمة وطقوسها الدينية الخاصة منذ قرون، لكنها انصهرت تدريجيًا في النسيج الفلسطيني. درس التاريخ والآثار في جامعة النجاح الوطنية، وهناك بدأت البذرة الأولى للمقاومة الفكرية والسياسية تتكوّن داخله. لم يكن ابن الطائفة المنغلقة، بل كان ابن الأرض التي علّمته أن الاستعمار لا يفرّق بين طائفةٍ وأخرى، وأن الرصاصة الإسرائيلية لا تسأل عن ديانة من تستهدفه. في الجامعة انضم إلى جبهة العمل الطلابي التقدمية، الذراع الطلابي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهناك تعلّم لغة اليسار الفلسطيني المجبولة بالغضب الطبقي والحنين القومي والرفض المطلق للاحتلال.
حين اندلعت انتفاضة الأقصى في عام 2000، لم يبقَ نادر صدقة في حدود الشعارات. انضمّ إلى كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة الشعبية، وأصبح من كوادرها الفاعلين في منطقة نابلس. شارك في التخطيط لعملياتٍ نوعية ضد أهداف إسرائيلية، كان أبرزها عملية بتاح تكفا عام 2003 التي اعتبرها الاحتلال من أكثر العمليات تأثيرًا في تلك المرحلة. اعتُقل بعدها بعام، في السابع عشر من أغسطس 2004، في مخيم العين بنابلس، بعد مطاردةٍ طويلة وتحقيقٍ قاسٍ استمر أسابيع في مركز بيتاح تكفا سيئ السمعة، حيث استخدم الاحتلال أبشع أساليب التعذيب النفسي والجسدي لانتزاع الاعترافات.
لكن اللافت في سيرة نادر لم يكن فقط ما فعله قبل الأسر، بل ما فعله خلاله. داخل الزنازين التي حُكم عليه فيها بستة مؤبدات وسنوات إضافية، لم يكتفِ بالصمود بل تحوّل إلى معلمٍ ومثقفٍ ومرجعٍ لرفاقه الأسرى. علّم العشرات من رفاقه التاريخ واللغة والسياسة، وشارك في صياغة مذكراتٍ فكرية حول التجربة الوطنية. في سجون الاحتلال، لم يُعامله الأسرى كـ"سامريٍّ" مختلف، بل كمناضلٍ فلسطينيٍ كامل الانتماء، لأن الجدران الحديدية التي تفصلهم عن الحرية كانت كفيلة بإسقاط كل ما سواها من فوارق. قال عنه أحد رفاقه في سجن نفحة: "كان نادر يفتح لنا دروسًا في التاريخ كأنه يقرأ من قلب الأرض، وكنا نرى فيه ما يمكن أن تكون عليه فلسطين حين لا يكون الدين هو السجن الأكبر".
إن إطلاق سراح نادر صدقة في أكتوبر 2025، ضمن صفقة تبادل جديدة بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال الاسرائيلى لم يكن حدثًا عاديًا في المشهد الفلسطيني. لم يكن خروجه مجرّد تنفيذٍ لبندٍ في اتفاقٍ سياسي، بل كان إعلانًا غير مكتوب عن انتصار رمزي على نظامٍ حاول أن يختزل الهوية الفلسطينية في معادلاتٍ أمنية وطائفية. فالرجل الذي سجنه الاحتلال لأنه قاوم، وجد نفسه بعد أكثر من عقدين شاهدًا على واقعٍ فلسطينيٍ تزداد فيه الانقسامات وتتعاظم فيه الحسابات الفصائلية الضيقة. ومع ذلك، لم يتحدث نادر بلغة التثاؤب السياسي ولا بلغة المنتصر العائد، بل بلغةٍ تفيض بالكرامة حين قال عبارته التي أصبحت صدى في كل وسائل الإعلام: "لا قول فوق قول غزة". في تلك الجملة، اختصر الأسير المحرر فكرة الوطن كلها: أن الحرية لا تُقاس بالمكان ولا بالانتماء، بل بالموقف من الاحتلال.
لكن ما يثير التساؤل السياسي الأعمق هو ما تمثله قضية نادر صدقة داخل المشهد العام للأسرى الفلسطينيين، الذين تجاوز عددهم أكثر من 11 ألفاً، بينهم المئات من الأطفال والنساء، والعشرات ممن تجاوزت أعمارهم نصف قرن خلف القضبان. فالإفراج عن صدقة ضمن الصفقة الأخيرة جاء بعد سنواتٍ طويلة من تعنّت إسرائيل في رفض إدراجه في أي تبادل سابق، ليس فقط لأنه محكوم بستة مؤبدات، بل لأنه كان بالنسبة لهم "السامري الذي خان إسرائيل من الداخل"، على حدّ تعبير أحد ضباط المخابرات في وثيقةٍ مسربة عام 2011. لقد كان وجوده داخل السجون تحديًا رمزيًا لهم، لأن النظام الصهيوني الذي يدّعي احتضان “الأقليات” وجد نفسه عاجزًا عن تفسير كيف يمكن لأحد أبناء تلك الأقليات أن يختار صفّ المقاومة على صفّ الاحتلال.
ومن هنا تنبع قوة قصته: إنها ليست فقط قصة أسير، بل قصة سقوط الأسطورة الإسرائيلية عن “ديمقراطية التعايش”. فبينما كانت تل أبيب تروّج للعالم أنها تمنح السامريين والمسيحيين والدروز حقوقًا خاصة داخل "دولتها"، جاء نادر صدقة ليفضح كذب هذه الرواية من داخل الزنزانة. كان وجوده في الأسر يحرج المؤسسة الصهيونية سياسيًا ودبلوماسيًا، لذلك رفضوا الإفراج عنه في صفقات سابقة، حتى صفقة شاليط، لأنه ينسف سردية إسرائيل عن “التسامح الديني” ويعيد تعريف المقاومة على أساسٍ وطنيٍ جامع لا طائفي.
لكن هل يكفي هذا التحرير الرمزي لتغيير واقعٍ تتآكل فيه المفاهيم الكبرى للحرية؟ فالقضية الفلسطينية اليوم تواجه أخطر مراحلها: انهيار المسار السياسي، تصاعد الانقسام الداخلي، تطبيع عربي متسارع، واحتلال يزداد فاشية وغطرسة. في هذا المشهد المأزوم، يبدو الإفراج عن أسيرٍ واحدٍ كقطرة في بحر، لكن في الوعي الجمعي الفلسطيني هو أشبه بشرارةٍ توقظ ما تبقّى من الإيمان بالعدالة. لأن كل أسيرٍ يتحرر يعيد طرح السؤال القديم الجديد: من يملك مفاتيح الحرية؟ هل هي الفصائل التي تتفاوض وتتنافس؟ أم الشعوب التي تواصل المقاومة رغم الخيبات؟ أم أولئك الذين يقضون أعمارهم خلف الجدران ليذكّرونا أن الحرية فكرة لا تُهزم؟
نادر صدقة، بطائفته الصغيرة وهويته المتعددة، جاء ليقول إن فلسطين أكبر من انقساماتها، وإن المقاومة لا تحتاج إلى ترخيص ديني ولا بطاقة حزبية، بل إلى ضميرٍ يرى في الاحتلال خطيئةً لا يمكن التعايش معها. حين خرج من السجن وأُبعد إلى مصر، لم يكن في مظهر المنتصر، بل في ملامحه مزيج من الحزن والكبرياء. بدا كمن يعرف أن الطريق إلى الحرية أطول من رحلة السنين التي قضاها في الأسر. قال في كلمته الأولى: “غزة هي من أعادتنا إلى الضوء”، وكأنّه أراد أن يقول للعالم: إن ما لم تحققه المفاوضات على الطاولات، تحققه الإرادة حين تحمل بندقية وكرامة.
إن رمزية نادر صدقة لا تكمن فقط في كونه السامري الوحيد الذي سُجن ضمن صفوف المقاومة، بل في كونه جسرًا بين الهامش والمركز في الوعي الفلسطيني. فوجوده يذكّر بأن الهوية الفلسطينية ليست عقيدةً دينية بل مشروع تحرّر إنساني شامل. وربما لهذا السبب كان خروجه لحظة سياسية مربكة لإسرائيل، التي لم تعرف كيف تتعامل مع هذه الحالة التي تهدم خطابها العنصري من الداخل. لقد أرادت أن تُبعده إلى مصر كي لا يتحول إلى رمزٍ حيّ في الضفة الغربية، لكنها لم تدرك أن الرموز لا تُنفى جغرافيًا، لأن حضورها في الذاكرة أقوى من أي جدار.
اليوم، حين يتحدث الفلسطينيون عن نادر صدقة، فإنهم لا يتحدثون عن سامري أو يساري أو فصائلي، بل عن إنسانٍ واجه السجن ولم يبدّل موقفه، عن رجلٍ جعل من الزنزانة منبرًا ومن القيود رسالة. ولعلّ الأجيال الجديدة التي أنهكتها الانقسامات والحروب والانكسارات بحاجة إلى مثل هذه النماذج كي تتذكّر أن المقاومة ليست حكرًا على حزبٍ أو دين، بل هي فعل حياة. إن خروج نادر صدقة بعد أكثر من عقدين هو تذكير بأن الزمن لا يُهزم حين يكون الحق سلاحًا.
لقد كان الاحتلال يراهن على أن الأسر الطويل كفيلٌ بكسر الروح، لكن نادر خرج بشموخٍ وهدوءٍ نادرين. لم يصرخ، لم يتوعّد، لم يُلقِ خطابًا ناريًا. اكتفى بابتسامةٍ صغيرة وبكلماتٍ قليلة كانت أبلغ من كل خطابات الساسة: “لا قول فوق قول غزة”. تلك العبارة، في معناها العميق، ليست مجرد تضامنٍ مع مدينةٍ محاصرة، بل إعلان ولاءٍ لفكرة المقاومة ذاتها، للكرامة حين تكون خيارًا وجوديًا لا شعارًا سياسيًا.
في المقابل، ما زال الاحتلال يواصل اعتقال آلاف الفلسطينيين، بعضهم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويستخدم السجون أداةً لإدارة الشعب الفلسطيني وإخضاعه. ومع ذلك، فكل صفقة تبادل، وكل أسير يتحرر، تؤكد أن المعادلة الأمنية الإسرائيلية فاشلة في جوهرها، لأن الاحتلال الذي يحتاج إلى السجون ليحمي نفسه إنما يعلن عن هشاشته لا عن قوته. إن نادر صدقة وغيره من الأسرى المحررين ليسوا ضحايا كما يحاول العالم أن يصوّرهم، بل هم صُنّاع الوعي الفلسطيني الحديث، والوقود الأخلاقي الذي يُبقي جذوة التحرر مشتعلة.
لقد علّمتنا قصته أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعًا، وأن الطائفة لا تقيّد الانتماء، وأن الوطن حين يكون مصلوبًا يحتاج إلى كلّ من يجرؤ على حمل الصليب معه. وما دام هناك في هذا الشعب من يستطيع أن يقضي عشرين عامًا في السجن ثم يخرج ليقول “غزة حررتنا جميعًا”، فذلك يعني أن الاحتلال، مهما طال، لا يملك مفاتيح الحرية، لأن تلك المفاتيح ما زالت في أيدي الذين يؤمنون أن الوطن فكرة لا تموت، وأن الدم حين يُسفك من أجلها يُحوّل الأسطورة إلى واقعٍ حيّ.
من يملك مفاتيح الحرية؟
ليس من يجلس على كرسيّ تفاوض، ولا من يرفع شعارًا في مسيرة، بل من يملك شجاعة أن يقول “لا” في وجه السجن والخذلان والنسيان. نادر صدقة فعلها بصمته قبل كلماته، بجسده قبل شعاراته، ولذا صار اسمه الآن جزءًا من معجم الحرية الفلسطيني، حيث تختلط الأديان في محرابٍ واحدٍ اسمه الكرامة، وتُكسر فيه الأقفال لا بالمفاتيح، بل بالإيمان.