مـات فـوزي الـبـكـري
نشر بتاريخ: 2025/10/14 (آخر تحديث: 2025/10/14 الساعة: 19:04)

مات فوزي البكري، مات آخر الشعراء الفدائيين، الذين أحبوا القدس، وحموها بالنصوص والأغاني والحب والمواقف الشجاعة، آخر مرة مررت عن بيته في عقبة المفتي بالقدس العتيقة، كانت قبل شهرين، كنت قبل مرضه الأخير أزوره في البيت رفقة أصدقاء يحبونه، بعد المرض الذي أقعده وأتعبه، صارت زيارته مستحيلة، فاستبدلت الزيارة بمرور بطيء عن بوابة بيته، ألقي التحية الصامتة، وأقف قليلاً، أمام الباب، وأسال كل من أجده جالساً في الشارع المبلط من التجار أو الجيران: هل هذا بيت فوزي البكري؟ فقط كنت أريد أن أجري حواراً عنه مع أحد يعرفه، كان أصحاب المحلات يهزون رؤوسهم دون كلام، فهم بالتأكيد اعتبروني غريب الأطوار يسأل السؤال نفسه كلما مر من هنا، أكتفي بالسؤال وبالصمت بعده أو هز الرأس، وأواصل الهبوط إلى شارع باب الواد، متمنياً من قلبي لأبي إسلام يوماً هادئاً دون ألم من أوجاع الظهر التي أنهكته.

كان مجرد وجود فوزي في بيته بالقدس على قيد التنفس (حتى لو كان مقعدًا) كافياً لي لأشعر بطمأنينة من نوع نادر، لا أستطيع وصفها، هي نفسها الطمأنينة التي كنت أحس بها حين كنت أعرف أن محمود درويش عاد إلى رام الله من أمسية شعر خارج فلسطين، وأنه موجود الآن في بيته بالطيرة، يأكل أو يتحدث أو يكتب أو ينام. رحيل صعلوك القدس يفتح باباً واسعاً لتدفق ذاكرة القدس الثقافية التي كان فوزي أحد فرسانها في ثمانينيات القرن الماضي، يوم كان الحلم الفلسطيني ناصعاً ومكتملاً كالبدر، في ديوانه الأول (صعلوك من القدس القديمة) دشّن الراحل الكبير صياغة شعرية لغوية خاصة جديدة على الشعرية الفلسطينية، اللغة بسيطة لكنها ممتلئة بالبروق اللغوية والجرأة والعفوية الذكية وهو أول شاعر فلسطيني يصور هموم بسطاء الناس، ويحتضن في قلب قصائده، بحق الفقير والمهمش في حياة كريمة.

البيت الذي نشأ فيه فوزي لا يمكن فصله عن أخلاقه وقيمه وحياته وانحيازه للبسطاء ومواقفه الشريفة وشجاعته وصدقه في الكتابة والحياة، فهو ابن المجاهد ياسين البكري أحد أهم قادة الجهاد المقدس، الذين دافعوا بأجسادهم عن أسوار القدس، وكانت بريطانيا قد اعتقلته، عام 36 وأودعته سجن المزرعة في عكا، وفي معارك 48 كان له دور كبير في الدفاع عن حي القطمون بالقدس.

قبل وفاة عادل الترتير بشهور قليلة، كنت شاهداً على محادثة تلفونية حميمة بينه وبين فوزي، ذكرت اسم فوزي أمامه، في سياق زياراتي للقدس، فتدفقت ذكريات عادل معه بالقدس وعبّر بحزن عن اشتياقه لفوزي، ورأيت شبح دموع في عينيه، فاتصلت فوراً بفوزي، وجلست استمع إلى أحلى وأرق وأنضج وأجمل حوار تلفوني بين عملاقين من بلادي، من خلال الحوار تعرفت على قدس الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ثقافياً ووطنياً، حين كان الحلم الفلسطيني كاملاً مستديراً مثل رغيف طابون شهي.

وبالمناسبة عادل وفوزي يشتركان في صفات كثيرة أبرزها وأهمها النقاء الكامل العنيد والمعذب والذي لا يهادن ولا يفاوض ولا يتعب.

رحمهما الله.