نحن أمام منعطف تاريخي غير مسبوق. زلزال قطاع غزة لم يكن مجرد حرب، بل لحظةَ انهيارٍ للمعادلات القديمة وولادةَ مسارٍ جديدٍ إقليمي ودولي. هذا المسار لن ينتظر الفلسطينيين طويلًا ليحسموا أمرهم، بل سيفرض شكلَه عليهم إن لم يبادروا هم بإعادة بناء نظامهم السياسي من الألف إلى الياء .
أولاً: منظمة التحرير الفلسطينية
الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني يُنظر إليه اليوم كمؤسسة رمزية عاجزة عن الفعل أو التأثير… ويُطرح السؤال التالي: هل تبقى مؤسسةً حقيقيةً تقود وتمثّل، أم تتحول إلى أرشيفٍ ثوريٍّ جميل بلا تأثير؟ فالعالم اليوم لم يعد يعترف بشرعية الشعارات، بل بالقدرة على صناعة القرار والقيادة.
ثانيًا: السلطة الوطنية الفلسطينية
أمامها “فرصة مصيرية أو ذهبية” تتمثّل في إعادة هيكلة شاملة لنظامها السياسي والاقتصادي والإداري، وإصلاحِ بنية مؤسساتها، وقلعِ الفساد من جذوره، وترسيخِ قواعد العدل والمساواة والشفافية، وإدخالِ قوى وشخصيات جديدة مؤثرة إلى عباءتها، والتخلّص من حكم الدائرة الواحدة: المتجانسة المصالح والرؤى والمفاسد، والاقتراب من شعبها وجمهورها. أو ستُترك لمصير العجز المالي أو العزلة والانهيار الذاتي، ثم تُستبدل أو تُوضَع تحت وصاية. ومن يتأخر في فهم هذه اللحظة قد يكتشف أن التاريخ وقواه المختلفة قد غيّرته.
ثالثًا: الفصائل الفلسطينية
الفصائل التاريخية التي رفعت شعار التحرير تآكل دورها؛ فلم تعد تمتلك مشروعًا سياسيًا، أو قدرةً تنظيمية، أو تأثيرًا على شعبها، أو حتى رؤيةً للمستقبل. المعادلة القادمة واضحة: من يبقَ فصيلاً ثوريًا تقليديًا سيُحشر في إطار منظمة التحرير الفلسطينية فقط، يُصدر البيانات، ويبحث عن ميزانيات تسدّ متطلبات الحياة ومصاريف المكاتب والقادة وبقايا المناضلين…ومن يريد الدخول في لعبة المستقبل يجب أن يتحوّل إلى حزبٍ سياسي برامجي، ويفوز في صناديق الانتخابات بثقة الشعب.
وبشكل خاص، يُنتظر أن تقوم حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، كبرى الفصائل الفلسطينية وأهمّها، بإعادةٍ شاملة لبنيتها وهياكلها وخطابها وبرامجها، ومفاصل تواصلها مع شعبها بشكل عام، وعناصرها بشكل خاص. فقد سيطرت على الفتحاويين، في مختلف مواقعهم، قوى اللامبالاة والفراغ والطبقية والمال والنفوذ والشللية والمصالح؛ وابتعدوا عن مبادئ الحركة وشعاراتها وتاريخها الناصع، وتحولت حركتهم إلى مجرد حزب حاكم يجمع مفاصل الحكم والثروة والثورة بيد واحدة.
رابعًا: الإسلام السياسي
ما جرى في قطاع غزة فتح الباب واسعًا لإعادة دراسة دور الحركات الإسلامية، وترتيب شروط عملها السياسي والجماهيري … والرسالة الإقليمية والدولية في هذا المجال واضحة: الدعويّ مسموح، والسياسي المدني مشروط، والدمج بينهما مرفوض ويُصنَّف تهديدًا.
وتحتاج القضية الفلسطينية من قوى الإسلام السياسي الانخراط في بناء المنظومة السياسية الفلسطينية، والبحث عن الطرق النضالية الناجحة، حسب قواعد: الممكن، والصعب، والأفضل، والمجمَع عليه وطنيًا والمقبول دوليا – بشكل مرحلي أو دائم – والمشاركة في أهم معارك الشعب الفلسطيني، وهي: الصمود على الأرض، ومقاومة خطط التهجير من الجغرافيا والتاريخ، وتوفير السبل اللازمة لذلك.
خامسًا: مطلوب حكومة قوية مؤثرة
مطلوب حكومةٌ قوية يؤمن الناس بمكوّناتها، ويعرف الجمهور سدنتها، تتمتع بصلاحيات كاملة، تجمع في صفوفها صفوة القوى الوطنية والمستقلة والمختصين، قادرة على صناعة القرار وتطبيقه وحمايته، ولا تخضع لابتزاز الفصائل وهوامير المال والمصالح والنفوذ. ويتطلّب ذلك إعادةَ الصلاحيات لمنظومة الحكومة، الموجودة الآن في حوزة مؤسستي: الرئاسة والأمن.
والمطلوب إبقاء مؤسسة الرئاسة حارسةً أمينةً لكل فسيفساء النظام السياسي الفلسطيني؛ مايسترو ينظّم حركة الديمقراطية والقانون والانتخابات بشتى أشكالها، ويقف على مسافة واحدة من مكونات المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية… وينتظر الفلسطينيون مهمة تحديد هوية نظامهم السياسي بشكل واضح: رئاسي ديمقراطي، جمهوري ،ملكي ، فيدرالي .
ويطالب شعبنا الفلسطيني، قبل العالم، بسرعة إجراء انتخاباتٍ رئاسية وتشريعية شاملة، في جميع مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية، ويتمسك بهما عناوين تاريخية وسياسية ووطنية، ترعى المسار الديمقراطي نحو الدولة الفلسطينية المستقلة.
سادسًا: من يرفض… سيُستبدَل
إذا استمرّ الفلسطينيون بالمراوغة، فلن يصبر عليهم أحد.
السيناريو البديل جاهز: تركُ السلطة لمصيرها المالي والاقتصادي والسياسي… خلقُ واقعٍ فوضويٍّ مُدار… تدخلٌ عربي/دولي لإدارة الضفة كما يُدار ملف غزة سياسيًا… واستحضار أو خلق قوى جديدة، كما حصل مع نموذج طالبان في أفغانستان… بمعنى: إمّا أن تُصلح نفسك… أو سيُصلحوك.
سابعًا: الصراع تغيّر، والنظام السياسي يجب أن يتغيّر
غزة غيّرت قواعد اللعبة… فلم يعد بإمكان الأكثر تطرفًا في إسرائيل أن يقرر مصير المنطقة وحده، ولم يعد بإمكان الفلسطينيين أن يواجهوا المستقبل بنظامٍ أو جهازٍ مشلول تتسع مسافات الفرقة بينه وبين قواعده.
نحن في عالمٍ جديد بمفرداتٍ جديدة: توازناتٌ دولية تتحول، تحالفاتٌ إقليمية تُعاد صياغتها، ومساراتُ حلّ سياسي تُطبَخ بجدية… من يريد البقاء لاعبًا مؤثرًا يجب أن يستوعب هذه المتغيرات بسرعة، ويعيد بناء أدواته السياسية وفقها.
نقترب من لحظة: " إمّا التحديث الجذري للنظام السياسي الفلسطيني… أو الانقراض السياسي البطيء"… لا قداسة لأي إطار؛ ولا حصانة لأي قيادة؛ ولا مكان لمن لا يمتلك رؤيةً وقدرةً وتمثيلًا حقيقيًا… التاريخ لا يرحم، والشعب لا يسامح، والقوى الدولية لا تنتظر… من لا يتغيّر سيُغيَّر… ومن لا يغادر طوعًا سيُرحَّل قسرًا.