تحقيق صحفي غزة هيروشيما القرن الـ21:
آثار الإبادة الجماعية الإسرائيلية والأسلحة المحرمة دولياً ضد أهالي القطاع تسللت إلى أرحام الأمهات واستهدفت الأجنة
آثار الإبادة الجماعية الإسرائيلية والأسلحة المحرمة دولياً ضد أهالي القطاع تسللت إلى أرحام الأمهات واستهدفت الأجنة
الكوفية الحرب فى غزة خلّفت دماراً تجاوز الأنقاض وتسلل إلى الأرحام، تركت بصمتها داخل قسم التوليد فى مستشفى العودة، شمال القطاع، الساعة كانت تشير إلى الثانية عشرة ظهراً تقريباً، فى الأول من مايو عام 2025، الهواء ثقيل، اختلطت رائحة المطهّرات بالبارود والرماد، النوافذ مغطاة بألواح معدنية صدئة للحماية من شظايا القنابل، وأصوات الانفجارات تتردّد فى الخلفية، تملأ صوت الفراغ بين نبضات أجهزة المراقبة الطبية.
فى تلك اللحظة التى اشتعلت فيها السماء فوق المدينة، حظيت غزة بروح جديدة تحمل اسم «ملك»، مولودة لم تصرخ كما يفعل المواليد، فقط خرجت فى صمت حتى وقف أمامها الطبيب المشرف على الولادة -الدكتور أسامة الثوم- مندهشاً بعد رؤيتها دون رأس مكتمل، بتشوّه واضح فى عظام الرأس لم يره الطبيب من قبل طيلة سنوات عمله.
«ملك» ليست المولود الأول المصاب بتشوهات خلقية فى غزة إبان الحرب، لكنها الأغرب على الإطلاق، فالأم التى قضت أشهر الحمل فى ظل القصف، لم تدرِ أن جسد ابنتها كان يتشكل بشكل غير سليم فى ظروف بيئية ملوّثة بالمواد السامة، أما الأب أحمد فايز القانوع، فلم يتمالك أعصابه فور رؤية مولودته بهذا المنظر، وبحسب روايته لـ«الوطن»، فهو أب لطفلين «بيسان ومحمد»، وُلدا دون تشوهات، ولم يسبق للعائلة بأكملها إنجاب طفل مصاب بأى تشوهات، فكيف لمولودته أن تأتى إلى العالم بهذا الكم من التشوه؟!.

الطبيب المشرف على الولادة أكد لأسرة «ملك» أن السبب هو استنشاق الأم مواد سامة نتيجة القصف الذى تعرضت له المدينة خلال فترة حملها، إضافة إلى سوء التغذية وعدم المتابعة الدورية أثناء الحمل، كل ذلك نتج عنه طفل مشوه يصارع الموت قبل أن يخرج إلى الدنيا.
17 يوماً من الانتظار بين الحياة والموت، قضتها «ملك» فى أحضان والديها، كانت تحصل خلالها على جرعات الحليب الصناعى عبر خراطيم أوصلها الأطباء فى جسدها على أمل أن تعيش، إلا أنها لم تتحمل وفارقت الحياة فى اليوم السابع عشر من ولادتها.
بعد عامين كاملين انتهت الحرب تقريباً، وهدأت أصوات المدافع، عقب اتفاق بين طرفى النزاع، لكن فى غزة -كما فى هيروشيما اليابان التى شهدت أكبر قدر من التشوهات الناتجة عن القنبلة الذرية- لا تُقاس المآسى بعدد الضربات الجوية ولا تُحصى الخسائر فقط بعدد الضحايا، هناك آثار لا تُرى، تبقى عالقة فى الهواء وتسرى فى الدماء ومحفورة فى وجوه الناجين.
تقارير طبية وشهادات ميدانية تكشف عن تزايد مقلق فى حالات تشوه الأجنة فى غزة، فى الفترة ما بين عامى 2023-2025 وسط اتهامات متصاعدة من جانب أطباء وخبراء ومنظمات حقوقية ودولية باستخدام إسرائيل لأسلحة محرمة دولياً ضد المدنيين العزّل خلال عامى الحرب.
الواقع فى مستشفيات غزة يروى قصصاً أكثر رعباً، أطباء النساء والتوليد يقفون عاجزين أمام حالات نادرة من التشوهات الخلقية بين المواليد والأجنة داخل الأرحام، لم تحدث من قبل، سجلات المستشفيات وثّقت ارتفاعاً ملحوظاً فى التشوهات منذ بداية العدوان، وسط نقص حاد فى الإمكانات الطبية والتجهيزات اللازمة للفحص أو العلاج.
«حكمة» ولدت بالشفة الأرنبية
حالة الطفلة «ملك»، التى ولدت بدون رأس مكتمل فى مستشفى العودة شمال قطاع غزة، ليست الوحيدة خلال فترة الحرب على غزة، ففى 19 أغسطس عام 2025، كان مجمع الصحابة الطبى على موعد مع ميلاد روح جديدة جاءت لتبث الأمل فى عائلة أرهقها النزوح وشتت شملها الحرب، إلا أن الأمل لم يلبث إلا دقائق قليلة حتى تحول إلى يأس ومعاناة.

«شفة أرنبية من الدرجة الثالثة وتشوه واضح بالوجه والفكين»، كلمات شخّص بها الطبيب حالة الطفلة «حكمة نوفل»، زلزلت الأرض من تحت قدمى والدها وزادت معها متاعب الولادة لوالدتها، فلم يسبق للأسرة ولا للعائلة بأكملها ميلاد طفل مصاب بتشوهات خلقية، هكذا بدأ الأب محمد نوفل تصريحاته لـ«الوطن»، من داخل خيمة يقيم بها بعد أن دمر الاحتلال منزله الكائن بحى الزيتون فى غزة.
الأب البالغ من العمر 32 عاماً والأم البالغة من العمر 27 عاماً، سبق لهما إنجاب طفلتين دون أى متاعب أو تشوهات خلقية، وبحسب رواية الأب فقد فسر الأطباء حالة الرضيعة «حكمة» بأنها ناتجة على الأغلب من مخلَّفات الحرب واستنشاق الأم للغازات السامة مثل الفسفور وروائح البارود من الصواريخ التى داهمت منزلهم خلال فترة حملها.
«حمل ومخاض صعب فى ظروف معيشية غير آدمية»، رحلة شاقة ومؤلمة خاضتها الأم «نداء»، عانت خلالها من نقص تام فى الأدوية ومياه ملوثة وعدم توافر الغذاء الصحى الذى تحتاجه أى سيدة حامل، فضلاً عن غياب المكملات الغذائية والفيتامينات اللازمة لصحة الأم والجنين، كل ذلك أدى إلى ميلاد طفلة مشوهة لا يستطيع الأطباء حتى علاجها داخل القطاع.
أسرة الرضيعة «حكمة» أطلقت استغاثات متكررة عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعى لمناشدة المسئولين تولى إجراءات علاجها بالخارج، لا سيما بعد الحصار الذى كان مفروضاً على قطاع غزة، لتخفيف معاناة الرضيعة وإعادة الأمل إلى أسرتها.
تشوهات غير مسبوقة
«على مدار 25 عاماً طيلة فترة عملى المهنى كاستشارى طب أطفال لم أرَ مثل هذه التشوهات من قبل بين المواليد»، كلمات عبّر بها الدكتور محمد أبوسلمية، استشارى طب الأطفال ومدير عام مجمع الشفاء، عن الوضع فى أقسام الحضانات ومستشفيات الولادة بالقطاع، معتبراً أن الأمر خطير وربما يؤثر على أجيال قادمة لعدة سنوات متتالية حتى وإن توقفت الحرب.

يستكمل «أبوسلمية» حديثه عن تبعات السلاح المحرم الذى استخدمه الاحتلال ضد المدنيين فى غزة، مؤكداً أن التشوهات الخلقية قد تستمر بين المواليد لسنوات قادمة ولن تنتهى الآثار بانتهاء الحرب، وذلك بسبب كمية السلاح التى تم استخدامها وأيضاً التلوث الموجود فى بيئة غزة وأجساد أهلها، مشبهاً ذلك بما حصل فى واقعة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما اليابان إبان الحرب العالمية الثانية.
فى سبتمبر من عام 2025، استقبل «أبوسلمية» حالة ولادة لطفلة -ليست الوحيدة التى صادفته ولكن ربما كانت الأبشع- ولدت فى الشهر الثامن من الحمل، أى مبكراً قبل اكتمال نموها، وتعانى من تشوه غريب، حسب وصفه، ورم كبير بحجم ثقيل يفوق حجمها فى منطقة «العصعص»، وفسر ذلك بأنه ناتج عن تلوث شديد يتغلغل فى أجساد أهل غزة من مواد سامة ومواد كيماوية فضلاً عن سوء التغذية، ما نتج عنه جيل كامل يعانى، منهم من ينجو بتشوهات مستعصية، ويموت منهم من لم يتحمل الحياة.

قنابل عنقودية وفسفور أبيض
فيما يتعلق بالأسلحة التى استخدمتها إسرائيل فى حربها، فإن هناك معايير لتصنيف السلاح الدولى المستخدم، وفى هذا السياق يؤكد نضال أبوزيد، الخبير العسكرى والاستراتيجى الفلسطينى، أنه تم استخدام القنابل العنقودية فى الحرب على غزة، فضلاً عن استخدام الفسفور الأبيض بشكل متكرر فى عمليات نفذها العدو ضد سكان شمال غزة عندما بدأت خطة التهجير.
«الفسفور الأبيض والقنابل العنقودية» من بين الأسلحة التى تُستخدم للإبادة البشرية، والاحتلال استخدمهما فى حربه التى امتدت عامين على القطاع، هذا بالإضافة إلى استخدام الروبوتات المتفجرة التى تحمل ما يتراوح بين 6 و7 أطنان من متفجرات tnt، وغيرها من الأسلحة التى تؤدى لتدمير مربعات سكنية بالكامل فى ضربة واحدة، وكل ذلك محرم دولياً، وبحسب «أبوزيد»، اتضحت آثار استخدام تلك الأسلحة جليّاً فى الحروق التى ظهرت على أجسام المصابين والندب التى ظهرت على جلد المصابين ليست كحرق عادى بل تؤكد استخدام الفسفور الأبيض المحرم دولياً.
وأشار الخبير العسكرى الفلسطينى إلى تقرير سابق لمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، تحققت فيه من مقاطع فيديو التقطت فى العاشر من أكتوبر 2023، أظهرت انفجارات جوية متعددة للفسفور الأبيض الذى أطلقته المدفعية فوق ميناء مدينة غزة، وحددت المنظمة الدولية نوعية الذخائر المستخدمة فى الغارة على أنها قذائف فسفور أبيض مدفعية من عيار 155 ملم وتنفجر جواً، وصدر عنها الدخان الأبيض الكثيف ورائحة الثوم، وهما من خصائص الفسفور الأبيض.
خبير مكافحة الإرهاب الدولى: هناك تشابه بين آثار قنبلة هيروشيما والأسلحة التى استخدمها الجيش الإسرائيلى ضد أهالى غزة
ما المقصود بالأسلحة المحرمة دولياً؟
ويفسّر لنا العقيد المصرى حاتم صابر، خبير مكافحة الإرهاب الدولى وحرب المعلومات، المقصود بالأسلحة المحرمة دولياً بأنها تلك التى يُحظر أو يقيَّد استخدامها وفق القوانين والاتفاقيات الدولية، لأنها تُسبب معاناة إنسانية مفرطة، أو لا تميّز بين المقاتلين والمدنيين، أو تُخلّف آثاراً طويلة الأمد على الإنسان والبيئة، وتحدد هذه المحظورات بموجب اتفاقيات جنيف ولاهاى، واتفاقيات حظر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والذخائر العنقودية والألغام، إضافةً إلى القواعد العرفية التى تلزم كل الدول بعدم استخدام الأسلحة العشوائية أو المفرطة التدمير.
تصنيف الأسلحة حسب القانون الدولى
وتُعرف أنواع القنابل والأسلحة -عادة- من آثار التدمير الناتج عنها، وهو ما شرحه لنا العقيد حاتم صابر، فالاحتلال استخدم الفسفور الأبيض، وهو مادة حارقة تسبب اشتعالاً فورياً وحروقاً قاتلة وتعتبر محظورة ضد الأهداف المدنية.
أما الذخائر شديدة الانفجار التى استخدمها الاحتلال الغاشم أيضاً، فتُحدث دماراً هائلاً فى المناطق المأهولة ولا تميّز بين هدف عسكرى ومدنى، وأخيراً القنابل الفراغية (الحرارية – الضغطيّة) فهى تولد حرارة وضغطاً هائلين داخل الفراغات، مسببة انهيار المبانى واختناق الموجودين فيها.
جميع ما سبق يؤدى إلى انهيار منشآت سكنية ومرافق عامة، كما يلوّث الهواء والمياه، ويعقد جهود الإطفاء والإنقاذ، فضلاً عن حدوث موجات ضغط هائلة تدمر الجدران والأسقف وتنهار بسببها المبانى، ما يجعل الأحياء السكنية غير صالحة للحياة.
ويؤكد العقيد «صابر» أن استخدام الأسلحة المحظورة أو تنفيذ هجمات عشوائية وغير متناسبة يعد جريمة حرب بموجب القانون الدولى الإنسانى ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وتشمل العقوبات الملاحقة القضائية الدولية وإصدار مذكرات توقيف بحق المسئولين العسكريين والسياسيين، إضافة إلى إمكانية فرض عقوبات دولية على الدولة أو الجهة المنفذة، لافتاً إلى أن الدول الأطراف فى «اتفاقيات جنيف»، بشأن حماية المدنيين فى أوقات الحروب، ملزمة بملاحقة مرتكبى مثل هذه الانتهاكات حتى إن وقعت خارج أراضيها.
هيروشيما اليابان وقنابل غزة
ورغم المسافة الزمنية والمكانية التى تفصل واقعة إلقاء القنبلة الذرية على «هيروشيما» عن غزة -آلاف الكيلومترات وأكثر من ثمانية عقود زمنية، فإن كلتيهما تشترك فى مأساة واحدة، وهى أجيال مشوهة تصارع الموت من قبل أن تخرج إلى الحياة.
وحول التشابه بين هيروشيما اليابان والوضع فى غزة، أكد العقيد حاتم صابر أن هناك عاملاً مشتركاً بالتأكيد بين آثار القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على «هيروشيما وناجازاكى»، والأسلحة التقليدية والكيماوية الحارقة التى تم استخدامها مؤخراً فى غزة
ويمكن الجزم عسكرياً وبمستوى عالٍ من التأكد أن الأسلحة المحرمة دولياً أو المستخدمة بطرق تنتهك مبادئ القانون الدولى «حارقة – عنقودية – متفجرة شديدة التأثير – مواد سامة»، تترك آثاراً تمتد زمنياً بعد انتهاء العمليات القتالية بغضّ النظر عن طول هذه الفترة وتتحكم فى ذلك عوامل كثيرة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، الذخائر غير المنفجرة التى تبقى على الأرض وتشكل خطراً فورياً مستمراً على المدنيين أثناء الإغاثة وإعادة الإعمار، حسبما يضيف «صابر»، وأيضاً، التلوث البيئى المتمثل فى ركام ومواد كيميائية أو بقايا متفجرات تلوث التربة والمياه وتؤثر على سلاسل الغذاء والصحة العامة لسنوات طويلة، بحسب العقيد المصرى حاتم صابر، خبير مكافحة الإرهاب الدولى.
منع الأدوية والمكملات
لكن ليست الأسلحة الإسرائيلية وحدها المتهم فى هذه الجريمة الصامتة، فنقص الفيتامينات الأساسية مثل حمض الفوليك والحديد، وغياب الأغذية والعلاجات المناسبة للحوامل جرَّاء الحصار المطبق المفروض على القطاع، متهم آخر تسبب فى إضعاف أجساد الأمهات والمواليد، وأسهم فى انهيار عملية النمو الطبيعى داخل الأرحام.
هذا ما أشار إليه جهاز الإحصاء الفلسطينى المركزى، حيث أكد، فى بيان له فى اليوم العالمى للمرأة، فى 8 مارس من العام الجارى، أن النساء والأطفال يمثلون 70% من ضحايا العدوان الإسرائيلى وحرب الإبادة الجماعية، فضلاً عن أن النساء فى قطاع غزة يعانين من صعوبة تأمين احتياجاتهن الأساسية مثل الغذاء والماء، ويعجزن عن توفير الرعاية الصحية اللازمة لأطفالهن المصابين، بسبب انهيار النظام الصحى، والقيود التى فرضها الاحتلال على إدخال الإمدادات الطبية الحيوية، واستهداف المستشفيات والطواقم الطبية.
وتوقع جهاز الإحصاء المركزى أن يتأثر التركيب العمرى والنوعى للسكان نتيجة الاستهداف المتعمد لفئات محددة للسكان كالأطفال والشباب، معتبراً أن ذلك يؤدى إلى تشوه شكل الهرم السكانى فى ظل توقعات بانخفاض عدد المواليد للسنوات القادمة.
زيادة حالات الإجهاض خلال الحرب
عطفاً على ما سبق، أكد الدكتور خليل الدقران، المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى وأحد متحدثى وزارة الصحة بغزة، أنه بالفعل لا تقتصر تبعات الحرب على التشوهات الخلقية للأجنة فحسب، بل يمتد تأثيرها أيضاً إلى ارتفاع حالات الإجهاض المبكر، وكلتاهما تستهدف الأجنة داخل الأرحام. منذ بداية الحرب استقبلت المستشفيات نحو 12 ألف حالة إجهاض لسيدات حوامل وميلاد مبكر لعدد كبير من الأطفال، منها حالات تعانى تشوهات خلقية كاستسقاء فى الدماغ أو ضمور أو تشوهات قلبية، بحسب إحصائيات «الصحة»، نقلاً عن «الدقران».
«صحة غزة»: 60 ألف سيدة حامل يواجهن الموت يومياً.. ومنذ بداية عام 2025 وحتى منتصفه سُجلت 17 ألف حالة ولادة مقارنة بـ29 ألف حالة فى نفس الفترة عام 2022
لا توجد بيانات موثوقة تُبيّن عدد حالات الإجهاض فى غزة قبل الحرب، سواء فى تقارير رسمية أو بحث أكاديمى موثوق، ولكن جميع المصادر الرسمية تتحدث عن ارتفاع حالات الإجهاض بعد اندلاع الحرب، وبحسب المتحدث باسم وزارة الصحة بغزة، فإن هناك أيضاً نحو 60 ألف سيدة حامل يواجهن حتى الآن الموت يومياً، ومنذ بداية عام 2025 وحتى منتصفه، سُجلت 17000 حالة ولادة فقط، مقارنة بـ29000 حالة فى الفترة نفسها من عام 2022، بانخفاض يفوق 41%، وذلك بسبب سوء التغذية والحصار واستنشاق الغازات السامة نتيجة استخدام أسلحة محرمة فى الحرب.
«التشوّهات الخلقية عند الأطفال حديثى الولادة عامة أثناء الحروب يمكن أن ترتبط بعدّة عوامل، حيث إن الحروب تُعرّض الحوامل والمواليد لظروف غير طبيعية مثل التلوث البيئى الناتج عن مخلَّفات الأسلحة، ونقص الغذاء، وانقطاع الرعاية الطبية، والتوتر النفسى الشديد، والإصابة المباشرة بالمواد السامة أو الإشعاعية، وجميع ما سبق تتعرض له النساء الحوامل فى غزة من اندلاع الحرب»، بحسب «الدقران»
وهناك تأثيرات أخرى غير مباشرة -بخلاف التشوّهات- تصيب المولود بسبب الحرب، منها على سبيل المثال؛ الإجهاض والولادة المبكرة، ونقص الوزن عند الولادة، وضعف المناعة، وتأخر النمو الجسدى أو العقلى، وكل ذلك يستهدف الأجنة والأجيال القادمة، بحسب المتحدث باسم «الصحة» فى غزة. ويضيف «الدقران»: «معظم حالات الأطفال المصابين بالتشوهات الخلقية يكون مصيرهم الوفاة، خاصة أن غالبية الحالات هى تشوهات بالقلب وتحتاج إلى إجراء عمليات جراحية فى الأسبوع الأول بعد الولادة، وهذا الأمر غير متوافر فى مستشفيات قطاع غزة».
مثال حى من داخل الخيام
«هدير»، زوجة الصحفى والمراسل التليفزيونى «سيف السويطى» كانت مثالاً حياً على ما قاله المتحدث باسم الصحة فى غزة، بأن هناك ما هو أكثر من التشوهات الخلقية للمواليد، وأن كثيراً من النساء الحوامل تعرضن -ولا يزلن- للإجهاض المبكر، خاصة فى الشهرين الأخيرين من الحمل، حيث يموت الجنين فى بطن أمه، بعد أشهر طويلة من المتاعب الصحية.
وسط خيمة النزوح فى جنوب القطاع، كان قلب الصحفى «سيف السويطى»، معلقاً بخيط رفيع من الأمل وسط كل هذه المأساة، فهناك طفلة تنمو فى رحم زوجته بعد طفلين ذكرين، وكان خبر حمل زوجته بالنسبة له مصدر تفاؤل، وسط كل هذا البؤس الذى يعيشه وأسرته.
رحلة نزوح «السويطى»، بصحبة زوجته وطفليه الصغار بدأت منذ تاريخ العشرين من أكتوبر عام 2023، أى بعد أيام قليلة من بدء الحرب، نزح خلالها خمس مرات بعد أن تعرض منزله للقصف واضطر لمغادرة المكان بصحبة زوجته وطفليه بحثاً عن مكان آمن يؤويهم وسط هذا الخراب، كمن يبحث عن إبرة وسط كوم من القش.
فى فبراير 2024، علمت «هدير» بحملها روحاً تنبض داخلها تقاوم مصاعب الحياة من أجلها مع أمل جديد لها ولزوجها، كانت تقيم حينها فى خيمة ببلدة الزوايدة فى مدينة رفح الفلسطينية، وهى المرة الأولى لها التى تقيم فى خيمة بعد أن اعتادت الرفاهية، والسكن فى بيت جميل تتوافر به كل سبل الحياة، فإذا بها فى مكان لا رفاهية فيه ولا حياة من أساسها، حسب وصفها.
رأس لا يهدأ وقلب تتلاحق دقاته خوفاً كل لحظة، هكذا عاشت «هدير» أشهر الحمل، وداخلها طوفان من مشاعر الفرح الممزوجة بالقلق، رحلة صعبة جداً خاضتها كغيرها من النساء الحوامل فى القطاع المحتل، غابت فيها كل مقومات الحياة، بل وأبسط المقومات الأساسية للمعيشة.
باتت -رغم حملها- تخبز الطحين بيديها، تشعل الحطب حتى تطهو الطعام لعدم وجود موقد الغاز أو بوتاجاز بعد أن نزحت من بيتها تاركة كل ما تملك، تبذل جهداً مضاعفاً لغسل الملابس وتوفير الرعاية المطلوبة لزوجها وطفليها، دون أن تحصل على قدر كافٍ من التغذية اليومية المطلوبة لصحة الحامل والجنين.. هكذا روى «السويطى» معاناة زوجته أثناء حملها وسط ظروف الحرب، حيث كانت الأسواق تخلو من الخضراوات والفاكهة الطازجة ومن مصادر البروتين الحيوانى اللازمة لصحة السيدة الحامل.
بذل «السويطى» كل ما فى وسعه من جهد ومال لمحاولة توفير بعض الطعام والفيتامينات اللازمة لزوجته للحفاظ على صحتها وصحة الجنين، ولكن كان الأمر أشبه بمهمة مستحيلة، فالاحتلال أحكم سيطرته على القطاع، فاختفت الأدوية والمكملات الغذائية، كما هدَّم المستشفيات وأماكن الرعاية الصحية فتعثرت المتابعة الدورية اللازمة مع طبيب النساء والتوليد.
استنشاق كمية كبيرة من المواد السامة، والضغط النفسى والتوتر الشديد الذى تتعرض «هدير» له كل يوم، تسبب فى مضاعفات شديدة لها حتى أُجهضت فى الشهر الثامن وفقدت طفلتها التى اختارت لها اسم «كرز»، حسبما يقول زوجها نقلاً عن الأطباء الذين عرضها عليهم عقب الإجهاض.
تقارير طبية حصلت عليها «الوطن»
لم نكتف خلال هذا التحقيق بالحصول على شهادات شفهية من الأطباء ومتحدثى الصحة فى غزة، بل حصلت «الوطن» على تقارير «سونار»، وبيانات موثقة من قسم الولادة بمجمع ناصر الطبى، بواسطة الطبيب الفلسطينى غسان مسلم، استشارى أمراض النساء والولادة ورئيس قسم النساء والولادة بمجمع ناصر الطبى، وأفادت بوجود ارتفاع ملحوظ فى معدلات التشوهات الخلقية بين الأجنة وحديثى الولادة خلال عامين كاملين منذ اندلاع الحرب فى عام 2023 وحتى 2025.
أنواع التشوهات الخلقية
فنَّد رئيس قسم النساء والولادة بمجمع ناصر الطبى، الدكتور غسان مسلم، التشوهات والاضطرابات التى قد تُسجل بين الأطفال حديثى الولادة فى مناطق الحروب بين تشوهات الجهاز العصبى أو ما يعرف علمياً بـ«السنسنة المشقوقة»، وهى غياب جزء من الدماغ، وأيضاً تشوهات القلب الخَلقية المتمثلة فى ثقب بين الأذينين أو البطينين أو عيوب فى الشرايين الكبرى مثل تبدل الشرايين، وقد تتمثل التشوهات، بحسب «غسان مسلم»، فى عدم اكتمال الأطراف، كنقص تكوُّن اليد أو القدم وتشوّهات الأصابع وتشوّهات الجهاز البولى والتناسلى وتشوّهات الوجه والفم والشفة الأرنبية وشق سقف الحلق.

بالقراءة المتعمقة للبيانات التى جمعها رئيس قسم النساء والولادة بمجمع ناصر الطبى، تبين أن هناك ثلاثة أنواع من العيوب الخلقية التى لوحظت بين المواليد فى غزة فى الفترة من 2023 – 2025، وهى عيوب الأنبوب العصبى، وعيوب رئوية خلقية، وتشوهات قلبية خلقية.
ومن بين هذه الأنواع الثلاثة، يؤكد «غسان» أن التشوهات القلبية الخلقية بين الأجنة والمواليد هى الأعلى انتشاراً فى غزة منذ اندلاع الحرب، وتزيد بشكل واضح مع الوقت، لافتاً إلى أن أعلى معدل لها كان فى 2025، وتتنوع أشكال التشوهات القلبية الخلقية، بحسب الطبيب الفلسطينى ما بين عيوب الحاجز القلبى وضيق الصمامات ورباعية فالو، ويرجع ذلك بالتأكيد إلى زيادة تعرض السيدات الحوامل لعوامل بيئية أو كيميائية مُضرة أثناء الحمل، أو نقص المتابعة الطبية وانعدام التغذية السليمة ونقص الفيتامينات والمكملات الغذائية نتيجة الحصار الذى فُرض على القطاع والذى يعيق توافر الأدوية والمكملات الغذائية، ويأتى على رأسها الفوليك أسيد المهم لصحة الأم والجنين، ويقلل من احتمالية إصابة الأجنة بالتشوهات.

إجمالى حالات التشوهات الخلقية خلال عام 2024 بلغ 55 حالة مسجَّلة فقط فى مجمع ناصر الطبى، وسجلت الأشهر السبعة الأولى فقط من عام 2025، نحو 14 حالة تشوه فى نفس المجمع الطبى مقابل حالة واحدة فقط فى الفترة نفسها من عام 2023، وهو ما يشير إلى ارتفاع ملحوظ فى تشوهات الأجنة، بحسب البيانات المرسلة إلينا من رئيس قسم النساء والولادة بمجمع ناصر الطبى، وأكد الطبيب الفلسطينى أن آثار ذلك قد تمتد لسنوات طويلة بين الأجيال المقبلة فى غزة حتى إن توقفت الحرب، حيث تظل آثار تلك المواد السامة والمواد الكيماوية عالقة فى الطبيعة وفى أجساد البشر لفترة زمنية.
«الوطن»، حاولت التواصل مع الدكتور مروان الهمص، مدير عام المستشفيات فى قطاع غزة، ولكن تبين أنه معتقل من جانب الاحتلال، الذى رفض الإفراج عنه ضمن الصفقة الأخيرة، وفى تصريحات إعلامية سابقة له، أكد «الهمص» أن حالات تشوه الأجنة تخطت المستويات الطبيعية، مسجلةً نحو 200 حالة لكل 1000 مولود، مقارنةً بالمعدل الطبيعى الذى حددته منظمة الصحة العالمية وهو 40 حالة فقط، وأضاف أن مخلفات المواد السامة الناتجة عن القصف أدت إلى ارتفاع حاد فى نسبة العيوب الخَلقية بين المواليد الجدد على مستويات مرتفعة من «الديوكسينات» فى دماء الأمهات الحوامل وحليب الثدى.


وطبقاً للموقع الرسمى لمنظمة الصحة العالمية، فإن «الديوكسينات»، هى ملوثات بيئية، تنتمى إلى ما يسمى المجموعة القذرة، وهى مجموعة من المواد الكيميائية الخطرة، حيث تثير هذه المواد قلقاً بسبب قدرتها العالية على إحداث التسمم، وقد بيّنت التجارب أن تلك المواد تؤثر فى عدد من الأعضاء والأجهزة، وبإمكان الديوكسينات، بعد دخولها جسم الإنسان، الاستحكام مدة طويلة بسبب استقرارها الكيميائى وسهولة امتصاصها من قبل النسيج الدهنى حيث يتم تخزينها، ويتراوح نصف عمرها بين 7 أعوام و11 عاماً، أما فى البيئة فإن الديوكسينات تتراكم فى السلسلة الغذائية، والجدير بالذكر أن تركيزها يزيد كلما اعتلينا سلم تلك السلسلة.
الهرم السكانى لغزة
بحسب الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى، شهد قطاع غزة انخفاضاً ملحوظاً فى عدد السكان بنسبة 6% منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر، وهو مؤشر خطير يهدد مستقبل أهل غزة، وذلك بعد أن كان قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية فى العالم، حسبما تشير الإحصائيات، ووفقاً للإحصاء الفلسطينى، كان يقيم بقطاع غزة قبل 7 أكتوبر 2023 نحو 2.3 مليون فلسطينى، كما أن التركيب العمرى لسكان القطاع كان يشير إلى ارتفاع نسبة الشباب والأطفال، فضلاً عن أن معدل المواليد فى القطاع سنوياً كان يُقدر بنحو 60 ألف حالة ولادة قبل الحرب.
وبمقارنة الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى قبل الحرب، بالأرقام الصادرة عن الجهاز نفسه بعد 15 شهراً من الحرب، فإن هناك تأثراً واضحاً فى الهرم السكانى لقطاع غزة، حيث انخفض عدد سكان قطاع غزة المقدر للعام 2024، بنحو 160 ألف فلسطينى، ليبلغ 2.1 مليون، بانخفاض مقداره 6% عن تقديرات عدد السكان لقطاع غزة للعام 2023، منهم أكثر من مليون طفل دون سن الثامنة عشرة، يشكلون ما نسبته 47% من سكان القطاع، وتراجع عدد الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة إلى 65% وبلغت نسبة الأفراد الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة، 4%.
استهداف مراكز الخصوبة فى غزة
زادت قتامة المشهد وانقطع آخر خيط من الأمل كان يتشبث به أهل غزة، فلم يكتف الاحتلال باستهداف النساء الحوامل والأجنة داخل الأرحام، بل مدَّ حربه إلى ما هو أعمق من الجسد، ووجّه أسلحته صوب أجنة مخصبة داخل مراكز التخصيب، أبرزها مركز البسمة أكبر مركز للخصوبة وأطفال الأنابيب فى القطاع، وهو ما يمكن وصفه بالتطهير العرقى ضد أهالى غزة.
احترقت داخل جدران المركز مئات الأجنة المخصّبة، قبل أن ترى النور بعد، لكنها كانت تمثل الأمل الوحيد لأسرٍ حرمتها الظروف من نعمة الإنجاب، وهو ما أكده الدكتور بهاء الغلاينى، استشارى نساء وولادة وإخصاب مجهرى، ومدير مركز البسمة للتخصيب، مشيراً إلى أن عدد الأجنة التى استهدفها الاحتلال داخل مركز البسمة 4000 جنين.
أما عدد الحيوانات المنوية والبويضات التى كانت قيد التخصيب، فقد بلغت نحو ألف وحدة، كل ذلك تبدد فى القصف، بعد خطوات طويلة من فحوصات وتحاليل وعلاجات وعملية جراحية دقيقة لاستخراج البويضة أو الحيوان المنوى، وتخصيب تحت المجهر، ثم عملية التجميد والتخزين فى حاوية النيتروجين المسال فى درجة برودة 180 درجةً تحت الصفر، حسب وصفه.
خسارة مركز متكامل بهذا الحجم من التجهيزات الطبية يعتبر خسارة كبيرة فى نسب الإنجاب فى القطاع واستهدافاً غاشماً للأجنة، خاصة أن نسبة من أصحاب هذه البويضات والحيوانات المنوية لن يكون بإمكانهم الإنجاب بشكل طبيعى لأسباب طبية وهؤلاء ينتهى أملهم فى إنجاب أطفال.
مركز «البسمة» كان واحداً من بين مركزين فقط فى القطاع، يعمل على تخصيب النطف المهربة من الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال، لمنح الأمل لأزواجهن بالإنجاب، وبالقضاء عليه وموت نحو 4 آلاف جنين داخل حضانات المركز، انتهى حلم هؤلاء الأسرى وأسرهم.
موقف القانون الدولى
يمنح القانون الدولى الإنسانى النساء فى أوقات النزاع الحماية العامة، لكونهن من المدنيين، بالإضافة لحماية خاصة، وتندرج النساء الحوامل تحت بند «الأشخاص الجرحى»، فى أوقات النزاع، وعليه فهنّ يستفدن من نفس الحماية الخاصة والاحترام اللذين يحق للجرحى والمرضى الحصول عليهما بموجب القانون الإنسانى (اتفاقية جنيف 4 المادة 16، البروتوكول 1، المادة 8).
كما يجب على أطراف النزاع السعى لنقل الحوامل إلى المستشفيات أو إلى مناطق آمنة خارج المناطق المحاصرة والمطوقة بحسب اتفاقية جنيف 4 (المواد 14، 16، 17، 21 و22)، وسواء تم إجلاؤهن أم لا، يجب توفير المساعدات الضرورية لهن، وكذلك الأطفال تحت سن الخامسة عشرة فى المناطق التابعة لأحد أطراف النزاع، يجب أن يستفيدوا من الخدمات المميزة التى يتم تقديمها إلى رعايا الدولة المعنية وفقاً لاتفاقية جنيف 4 (المادة 38-5).
جريمة فى انتظار المحاسبة
ربما لا يدرك كثير من الأمهات فى غزة أن أطفالهن، الذين لم يولدوا بعد، قد كُتب عليهم أن يحملوا آثار حرب لم يعيشوها أو يشاركوا فيها، وما تكشفه الوقائع اليوم هو أن آثار العدوان الإسرائيلى لا تقف عند حدود البيوت المهدمة والأرواح المزهقة، بل تمتد عميقاً فى الأجساد والأرحام، ففى غزة لا تتوقف الإبادة عند انتهاء القصف، بل تتسلل عبر الدم والهواء والطعام والماء، فالأجنة تُستهدف قبل أن تولد، والطفولة تُمحى قبل أن تبدأ، إبادة تمتد لسنوات، بما لا يقل فتكاً عن القنبلة التى سقطت على هيروشيما قبل ثمانية عقود، وهى الجريمة التى تظل بانتظار المحاسبة يوماً ما.
من الجدير في الذكر أن هذا التحقيق نشر في صحيفة وطن المصرية