ممداني مؤشر على التحول الأميركي
 
                                            رجب أبو سرية
ممداني مؤشر على التحول الأميركي
إذا كانت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة، قد نغصت على الرئيس دونالد ترامب ولايته الأولى ما بين عامي 2016_2020، فإن المرشح الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك المسلم زهران ممداني، يبدو أنه في طريقه ليقض مضجع سيد البيت الأبيض في ولايته الحالية، وذلك بعد أن بدا أن ترامب سيُمضي ولايته الحالية بسهولة، خاصة بعد ان سيطر حزبه الجمهوري على الأغلبية في الكونغرس بغرفتيه، الشيوخ والنواب، وبعد ان سيطر ترامب على الحزب الجمهوري نفسه، طوال العقد الماضي، أي خلال ولايتيه في البيت الأبيض، الحالية والماضية، وما بينهما ولاية جو بايدن، حيث عاد ترامب ليكون هو مرشح الحزب الجمهوري مجدداً، في واقعة غير مسبوقة، نقصد ان ينهزم رئيس مرشح، ثم يعود للترشح مجدداً ويفوز، وهذا ما يشجع ترامب المثير للجدل دائماً، على ان يفكر في ولاية ثالثة مستحيلة، رغم تقدمه في العمر، حيث سيكون بعمر 82 سنة في نهاية ولايته الحالية، وفي ذلك مفارقة غريبة، حيث كان يأخذ ذلك مثلباً على بايدن، حين كان في هذا العمر في البيت الأبيض، ليس ذلك وحسب، بل إنه يتجاهل استحالة ان يترشح لولاية ثالثة، لأن الدستور الأميركي لا يبيح هذا باختصار.
لكن لماذا من المتوقع أن يمثّل ممداني مشكلة داخلية بالنسبة لترامب، وهو لن يكون أكثر من عمدة، أي لن يكون رئيساً لمجلس النواب كما كان حال بيلوسي، ولا حتى رئيساً للحزب الديمقراطي، بتقديرنا يعود الأمر لأكثر من سبب، منها ان ممداني هو المرشح الأوفر حظاً للفوز بمنصب عمدة نيويورك، ونيويورك بالرغم من أنها ليست عاصمة الولايات المتحدة، إلا انها مدينة تتمتع بمكانة بالغة الأهمية داخل اميركا وخارجها، حيث يقع فيها مقر الأمم المتحدة، وأهميتها الاقتصادية تضفي عليها مكانة عالمية اضافية، واذا كانت واشنطن هي العاصمة السياسية فإن نيويورك تعد العاصمة الاقتصادية والثقافية، حيث تمتلك النظام المصرفي الأكبر في العالم، كما انها معقل الأقليات، خاصة السود واليهود، ولهذا فهي تُعد كمدينة وولاية ديمقراطية في الغالب، وينطوي فوز ممداني بمنصب العمدة فيها على عدة دلالات، فهو أولاً ديمقراطي، وثانياً مسلم، أي انه سيكون أول عمدة مسلم للمدينة، ودائرته الانتخابية تعتبر واحدة من أكبر التجمعات العربية في المدينة.
أي ان فوزه يعتبر مؤشراً على تصاعد النفوذ العربي والإسلامي ليس في نيويورك وحسب، بل وفي كل اميركا، التي بقي تأثير اللوبي اليهودي فيها لعقود طويلة رافقت الصراع العربي الإسرائيلي، هو التأثير الوحيد الحاسم، والذي فسر انحياز أميركا الدائم ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن لإسرائيل، كذلك يؤشر الى ان هناك تغيراً حقيقياً، بل انقلاباً يحدث داخل أميركا يحدث، فيما يخص الصراع في الشرق الأوسط، وفي كل القضايا الداخلية والخارجية، على وقع الصراع على النظام العالمي، وكيفية ادارة الحزبين الجمهوري والديمقراطي لهذا الصراع، حيث يبدو ان اميركا تخسر ذلك الصراع لصالح الصين وروسيا، وانها اذا كانت قد تورطت مع الحزب الديمقراطي في حرب خاسرة ومكلفة على جبهة اوكرانيا_روسيا، فإنها مع الحزب الجمهوري، تخسر في السباق الاقتصادي مع الصين، بل وخسرت حلفاءها التقليديين في أوروبا وكندا وحتى اليابان، ولعل أيضا اتساع حجم ومستوى المعارضة لسياسات ترامب الداخلية، خاصة فيما يخص الهجرة، خير دليل، على ان أميركا تتغير على وقع الصراع مع العالم داخلياً وخارجياً.
واستطلاعات الرأي التي رافقت الموقف الأميركي من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وحتى إزاء الانحياز لإسرائيل، الذي وضعها في مكانة منبوذة بالنظر الى اعتراف دول الغرب بدولة فلسطين في الشهر الماضي، يؤكد بأن اغلبية الحزب الديمقراطي كانت ضد الحرب الإسرائيلية وليس مع وقفها وحسب، بل ومع اجبار إسرائيل على وقفها، بينما كان نصف الحزب الجمهوري مع هذا الموقف الذي أقل ما يوصف به بأنه بات منصفاً أو متوازناً، يجمع بين حق إسرائيل في الوجود، والحق الفلسطيني في قيام دولة فلسطين المستقلة، ولأن الحزب الجمهوري ما زال _بتقديرنا_ غارقاً في عسل الماضي، فإنه ما زال متجمداً في مكانه، وإن لم يسارع الى التفكير جدياً، بإحداث انقلاب داخل الحزب، يدفع من خلاله بمرشحين «يساريين»، أي ليس جي دي فانس، ولا ماركو روبيو، ولا ترامب بالطبع، فإنه لن يفوز في انتخابات الرئاسة القادمة، وذلك لأنه بعد اربع سنوات او حتى خمس من الحرب الإسرائيلية، فإن الشباب الذين قادوا وانخرطوا في التظاهرات خلال عامي 2024، 2025، سيكونون ناشطين انتخابيين وناخبين مهمين جداً، بل سيكون بعضهم مرشحاً لمجلس النواب.
وحتى الانتخابات السابقة، كان لموقف النواة الانتخابية الصلبة منها تأثير حاسم عليها، ذلك ان الناخب الديمقراطي نفسه عاقب بايدن وكامالا هاريس، على انحيازهما في الحرب خلال عام 2024 مع إسرائيل، بل إن احد اهم أسباب فوز ترامب فيها، وكان دائماً متخلفاً في استطلاعات الرأي عن منافسته هاريس، كان «صمته» وعدم ادلائه بموقف صريح من الحرب، بل كان يردد بأنه قادر على وقفها بمجرد دخوله البيت الأبيض، بل واكثر من ذلك، كان التقى وعقد صفقة مع رجال دين مسلمين، بما ظهر على انه «تصويت» للصوت المسلم لخصم بايدن_هاريس اللذين تورطا في حرب الإبادة الى جانب مجرمي الحرب فيها، بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت.
زهران ممداني، لا يتلعثم فيما يخص هذا الأمر، وهو كونه مرشحاً لمنصب عمدة نيويورك، يبقى حتى في حال فوزه المرجح، رئيس إدارة محلية، فهو حتى ليس حاكم الولاية، اي ليس مطلوباً منه ان ينخرط في الشؤون السياسية تماماً، او بتفاصيلها، لكنه يفعل ذلك، ليدلل على انه يسير على طريق «ثوري» في الحياة الداخلية الأميركية، وربما أنه يقوم بتعبيد الطريق أمام حزبه، لينتشله من موقع المعارض الضعيف، الى المنافس القوي، او المعارض الذي يضع العراقيل الجدية على طريق خصمه السياسي التقليدي، والحزب الديمقراطي يدعم ترشح ممداني على مضض، لأن المستوى الرسمي من قيادة الحزب، أو المستوى البيروقراطي، من شيوخ ونواب، باستثناء اليساريين منهم من امثال بيرني ساندرز، رشيدة طليب والهان عمر، ما زالوا بعيدين عن نبض الشارع الأميركي وعن إيقاع القاعدة الشعبية لحزبهم الديمقراطي نفسه، والدليل هو استطلاعات الرأي التي تشير الى ان أغلبية الحزب مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
أما ممداني فإنه يذهب ابعد من ذلك، فهو تعهد باعتقال بينامين نتنياهو، في حال فوزه بمنصب عمدة نيويورك، كما أنه وصف وما زال يصف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بأنها حرب ابادة جماعية، أي انه متوافق مع القضاء الدولي، وهو ذاهب للتصالح مع العالم الخارجي، وليس في قاموسه فرض السلام بالقوة، كما يقول ترامب، ولا ان يسعى للسيطرة كما فعل بايدن، ولا هو خاضع بالطبع للوبي اليهودي، هذا الخضوع الذي جعل اميركا دائماً تنحاز لإسرائيل، وتدفع ثمن ذلك غالياً، من استحقاقها الأخلاقي لقيادة العالم، ذلك انه ليس من المنطقي ان تصوت الدولة التي تدير النظام العالمي، مع بضع دول تعد على أصابع اليدين، بينما تصوت أغلبية الدول على قرارات مؤيده للشعب الفلسطيني في الجمعية العامة، بل وتضطر الى استخدام حق النقض «الفيتو» ست مرات خلال عامي الحرب على غزة، لقطع الطريق على إصدار مجلس الأمن قراراً بوقفها.
ولا يبدو بأن ظاهرة ممداني، مجرد «شو انتخابي» فنادراً ما أثارت انتخابات عمدة نيويورك اهتمام الداخل الأميركي فضلاً عن الخارج، لكن الحدث يجري في اكبر تجمع يهودي خارج إسرائيل بمليوني يهودي مقيم فيها، ولكن فيما سيظهره من صدام مع النظام الفدرالي الذي يقوده ترامب، وعلى درب كاليفورنيا، قد ينفتح الباب أمام مشاكل داخلية، لا احد يعلم نهاياتها.
وممداني شاب في الثالثة والثلاثين فقط من عمره، ما زال الوقت أمامه طويلاً على طريق السياسة الأميركية، واذا كان وفي عمر مبكر يتقدم نحو منصب عمدة نيويورك، فإن فوزه يعني بأنه بعد بضع سنوات قليلة سيتطلع لمناصب أعلى كعضوية مجلس الشيوخ، ولكن ليس الرئاسة لأنه ليس من مواليد الولايات المتحدة.
إن ظهوره، يؤكد مؤشر التغيير في السياسة الأميركية، حيث قد يكون ترامب هو آخر رئيس أميركي منحاز الى جانب إسرائيل، بينما يسير رئيس الولايات المتحدة القادم بعد ثلاث سنوات، على طريق الرئيس الفرنسي، ورئيس وزراء بريطانيا.
 
         
               
                 
                     
                     
                 
                     
                                 
                                