نشر بتاريخ: 2025/10/24 ( آخر تحديث: 2025/10/24 الساعة: 14:36 )
رجب أبو سرية

الشروع في ترتيبات ما بعد الحرب

نشر بتاريخ: 2025/10/24 (آخر تحديث: 2025/10/24 الساعة: 14:36)

كما كان الميدان ساحة حرب قاسية، تأذى فيها الطرفان طوال عامين كاملين، وكما كانت ساحة التفاوض قاسية، شهدت كل أشكال التلاعب والمراوغة، الشد والرخي، وكانت عضا عنيفا للأصابع أكل العظم بعد اللحم، دخلت الأطراف الآن، مرحلة ما بعد الحرب، وهي عمليا المرحلة التالية وفق الخطة المتوافق عليها، وكما أشرنا في مقالنا السابق، إلى أن هذه المرحلة خاصة بالأطراف الإقليمية والدولية، أكثر منها بإسرائيل وحماس، بل إن الطرف الأميركي ومعه من عاد للتوافق معه، وهو الذي وقف لجانب إسرائيل كل الوقت، يسارع للدخول في هذه المرة، وذلك بهدف قطع الطريق على حليفه الإسرائيلي لمعاودة الحرب، والتوقف عند حدود المرحلة الأولى منها، وذلك من خلال إرساله معظم طاقم الإدارة الأميركية الفعال إلى تل أبيب، لأجل هذه المهمة.

فبعد أن أرسلت واشنطن كلاً من جاريد كوشنر صهر الرئيس دونالد ترامب، وعراب اتفاقيات أبراهام، وستيف ويتكوف عراب التفاوض الأميركي على كل جبهات النار في المنطقة، أرسل أهم رجل في الإدارة الأميركية، نقصد نائب الرئيس القوي، ثم لحق بكل هؤلاء وزير الخارجية مارك روبيو، الرجل القوي الآخر مع جي دي فانس، وكل هذا يعني إجبار نتنياهو بالقوة على لجم رغبته الجامحة في العودة للحرب، مع استخدام الجزرة إلى جانب العصا، وهذه الجزرة هي إقناع الإسرائيليين بأن مرحلة ما بعد الحرب ستجري وفق خطة ترامب، أي بقيادة وإدارة واشنطن وليس بأحد آخر، وهذا الأحد الآخر تخشى تل أبيب أن يكون مصر الطرف الثاني من وثيقة السلام، التي نجمت عن مؤتمر السلام في شرم الشيخ، كذلك مقابل نية مصر أن يكون قوام القوة الدولية التي ستشرف ميدانيا على ما بعد الحرب، من الدول العربية والإسلامية، أي إلى جانب مصر كل من تركيا، وإندونيسيا وأذربيجان، حيث أعلن نتنياهو صراحة معارضته دخول تركيا وقطر على خط مرحلة ما بعد الحرب.

وهذا أمر من الواضح أنه سعي للتوقف عند المرحلة الأولى والإبقاء على قطاع غزة مدمراً وغير قابل للحياة، أي الإبقاء على أمل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، في احتمال تنفيذ التهجير، وعدم إغلاق بابه نهائيا بإعمار القطاع، بعد وقف الحرب نهائيا، بل وعدم الإبقاء على أي فرصة أمامهم، طاقم الحكم الفاشي بالعودة لها أو تجديدها، أو مواصلتها وفق منطق «فاصل ونعود»، والتدخل الأميركي عمليا لم يتوقف منذ عقد مؤتمر شرم الشيخ، ولم يتوقف كما كان متوقعا من قبل بعض المراقبين، بعد إعلان الفائز بجائزة نوبل للسلام، ولا حتى بعد تنفيذ عملية تبادل المحتجزين الأحياء بالأسرى الفلسطينيين، بل بقي الأميركيون على الخط، بمن فيهم ترامب شخصيا، يتابعون التفاصيل، بما في ذلك ما ظهر من عارض تسليم جثث المحتجزين القتلى، أو ذلك العارض الذي أودى بحياة جنديين إسرائيليين في رفح، وجعل نتنياهو منه ذريعة لفتح جبهة القتال مجدداً، عبر شن غارات عنيفة على قطاع غزة أودت بحياة العشرات.

ومن الواضح أن الانتهاء من تسليم كل جثث المحتجزين القتلى، الذين كانوا أحياء وأودت العمليات العسكرية الإسرائيلية بحياتهم، للبدء في الدخول لمرحلة ما بعد الحرب، لا ينطوي فقط على الإبقاء على الباب مفتوحا أمام تجدد الحرب وحسب، بل سيحتاج وقتا، لأن عمليات البحث مضنية، وتحتاج معدات إلكترونية للبحث ومعدات التجريف لأن الجثث هي في الأنفاق التي قام الطيران والمتفجرات الإسرائيلية بتدميرها على من كان فيها، من مقاتلين ومحتجزين على حد سواء، وما يظهر محاولة نتنياهو إفشال خطة إنهاء الحرب، حتى بعد توقيعها وتنفيذ المرحلة الأولى منها، هو عدم تعاونه في إدخال المعدات اللازمة للبحث والتجريف إلى غزة، بما في ذلك معارضته دخول القوات الهندسية التركية للمساعدة في هذا الغرض بالتحديد.

وقد سبق لواشنطن أن أرسلت مائتي عسكري ليكونوا ضمن القوة التي سيعتمد عليها «مجلس السلام» برئاسة ترامب، الذي تنظر إليه واشنطن كحاكم لقطاع غزة، في مرحلة ما بعد الحرب، بينما أعلنت لندن عن مشاركتها واشنطن وإرسال قوة مشابهة، وحتى تتجنب واشنطن الاحتكاك بقواتها العسكرية مع «المقاومة» الفلسطينية في قطاع غزة، التي من الطبيعي أن تنظر إلى أي قوات أجنبية على أنها محتلة، ما لم تكن نتيجة موافقة رسمية فلسطينية، فإنها أعلنت أن هذه القوات لن تدخل غزة، بل ستبقى خارجها تراقب، أي أن واشنطن تفضل دخول القوات العربية - الإسلامية لغزة أولاً، ومن ثم بعد ترسيخ دعائم الحالة الناجمة عن تنفيذ مهمة نزع سلاح حماس، وهي مهمة معقدة للغاية، تدخل القوات الأميركية، ربما من أجل أن تكون إدارة غزة الأميركية، بمثابة انتداب أميركي لمدة عشر سنوات، كما جاء في خطة التهجير أصلا، جزءا من اتفاق السلام الإقليمي، كما تخطط إدارة ترامب.

أي أن الأميركيين ما زالوا يمنون النفس بالحصول على ما طمعوا به من خطة التهجير أصلاً، وهو أن يجري إعمار غزة من جيوب دول الخليج والدول الإسلامية، فيما يكون جني الأرباح الناجمة عن استخراج غاز مارينا، وعن تحويل شاطئ غزة لمنتجع سياحي من نصيب الأميركيين وفي مقدمتهم ترامب نفسه ليكون آخر مشاريعه بعد تقاعده من العمل السياسي، ويكون ذلك على حساب التضحية بالشق الذي كان يخص الإسرائيليين وهو تهجير السكان، ليكون مستقبل غزة بعد السنوات العشر التي تمنح كهدية لترامب، الضم لإسرائيل الكبرى.

باختصار هذه المرحلة، ما زالت غامضة، لكن يمكن رؤية انحسار دور طرفي الحرب فيها، وليس كما كان الحال قبل توقيع خطة ترامب، كانت إسرائيل وحماس تقرران وجهة التفاوض نحو صفقة التبادل، وحماس من جهتها سلمت إلى حدود كبيرة بخروجها من الحكم، وإلى حد ما بتسليم السلاح الثقيل، وبعد تدمير معظم القوة الصاروخية، بقيت قوة حماس متمثلة في الأنفاق، في بعض الأسلحة الثقيلة، مثل القذائف والمدافع والأهم هو ورش تصنيع الصواريخ، وهي أبدت الاستعداد لتسليمها للسلطة، مع دخول مقاتليها الجيش الفلسطيني، لضمان حياتهم ووجودهم، وإسرائيل باتت متأكدة بسبب مما يبديه ترامب من متابعة، أن صفحة الحرب قد أقفلت، لكنها تراهن على ما سيجري من صراع خفي بين الأميركيين من جهة، والعرب بقيادة مصر بالتحديد، ومن ورائها قطر وتركيا، على شكل إدارة غزة ما بعد حرب، ومدى أو جدية تدفق أموال إعادة الإعمار.

ذلك أن مصر دربت منذ وقت آلافا من عناصر الشرطة الفلسطينية للعمل في معبر رفح أولا، كما أنها جاهزة لمشاركة آلاف من قواتها العسكرية لتكون ضمن قوات عربية - إسلامية لدخول غزة، بعد تفويض من مجلس الأمن، كقوة سلام، أو فصل قوات بين حماس وإسرائيل، لكن وكما أن ترامب بحاجة للتوافق مع مصر، حتى تبقى قواته في «كريات جات»، فإن مصر بحاجة للتفويض الأممي الذي لا يمكن أن يمر دون الموافقة الأميركية، وبالطبع وكما قلنا سابقا في مقال سابق، إن كلا من إسرائيل وحماس تفضلان البقاء عند المرحلة الأولى، أو الدخول فيما بعدها ببطء على الأقل، لتوفير الوقت لالتقاط أنفاسهما بعد الحرب الضروس التي أنهكتهما معا، فإن المرحلة التالية كما تطالب حماس بأخذ روحها المتمثلة بنزع سلاحها، فإنها ستطالب إسرائيل بالخروج تماما من قطاع غزة، أي بالانسحاب من الخط الأصفر بالكامل، حينها سيتضح تماما أن كلا من حماس ونتنياهو قد خسرا الحرب.

أن تجري الأمور وفق هذا المسار بحاجة إلى متابعة بنفس الإصرار بالعزيمة، ليس من قبل الأميركيين وحسب، وبل ومن قبل مصر وتركيا وقطر، وقبل كل هؤلاء من السلطة الفلسطينية، حتى لا يكون الحل النهائي على حساب الحق الفلسطيني في الدولة المستقلة الموحدة لكل من قطاع غزة والضفة الغربية وبالعاصمة القدس الشرقية، وذلك لأنه بات واضحا، وكما خطط ترامب الذي يقود سفينة ما بعد الحرب فعليا، فيما يصطف كل الآخرين بمن فيهم الإسرائيليون بالطبع وراءه، أن وقف الحرب، والحل في غزة سيكون جزءا من اتفاقية سلام إقليمي، أي أنه وفق هذه الرؤية ستجري إعادة هيكلة وترتيب الشرق الأوسط، لتدخل إسرائيل في النظام الإقليمي، وهي الفرضة الأخيرة ليتضمن ذلك وجود الدولة الفلسطينية أيضاً.

والموقف الفلسطيني بات قوياً جداً، ليس ذلك بعد سلسلة الاعتراف الدولية خاصة من الغرب الأوروبي ودول كندا وأستراليا وحسب، بل لأن مؤتمر نيويورك وخطة الرئيس الفرنسي ماكرون ما هي إلا مكمل لخطة ترامب، ولأن السعودية بالذات باتت أهم دولة في الشرق الأوسط، هي من سيقرر نجاح أو فشل مشروع ترامب للسلام الإقليمي، هي رئيس مؤتمر نيويورك مع فرنسا، وما زالت تصر على قيام دولة فلسطين.