حين سقطت الهيبة على الهواء

بن معمر الحاج عيسى
حين سقطت الهيبة على الهواء
الكوفية لم يكن المشهد مجرد انسحابٍ عابر من مقابلة تلفزيونية، ولا لحظة انفعالٍ لرجلٍ فقد أعصابه أمام مذيعٍ جريء، بل كان لحظة انكشافٍ كاملة لخطابٍ سياسيٍ مهترئٍ بُني على الصوت العالي لا على الحقيقة، على الشعارات لا على المواقف، وعلى الهروب لا على المواجهة. حين غادر موسى أبو مرزوق الكاميرا، لم يغادر ستوديو بل غادر مرحلةً بأكملها من الوهم الذي طالما بيع باسم المقاومة والوطن. في تلك الثواني التي أدار فيها ظهره للمذيع، كان يدير ظهره لشعبٍ بأكمله ينتظر إجابة على سؤالٍ بسيط: ماذا جنيتم من 7 أكتوبر؟
لقد بدا الرجل كمن تلقّى سؤالًا لا يحتمل التأجيل ولا التبرير، سؤالًا خرج من أفواه الملايين لا من فم مذيعٍ واحد. السؤال الذي طاردته كل العقول والقلوب الفلسطينية والعربية منذ عامٍ كامل: أي حصادٍ هذا الذي جلبتموه لنا من حربٍ لم تحسبوا لها حسابًا، ولا حميتم شعبًا، ولا خططتم لمخرج؟ انسحابه لم يكن رفضًا لأسلوب المذيع، كما حاول أن يوهم الناس، بل كان رفضًا لمبدأ المساءلة ذاته، لأن المساءلة تُخيف من يملك تاريخًا مليئًا بالتناقضات. لقد بدت الكلمة أبسط من أن تُخيف قائدًا، لكنها كانت مرآةً عكست كل ما لا يريد أن يراه: العجز، الارتباك، والتهرّب من الحساب.
منذ سنوات، بنى هذا التيار خطابه على الصراخ في وجه الآخرين، على لغة التحدي الفارغة التي تُشعل الجماهير ساعة الخطابة، لكنها تخذلهم ساعة الحقيقة. الخطاب الذي اعتقد أن رفع الصوت يكفي لإقناع الناس، وأن التلويح بالمقاومة يُعفي من التفكير. ولكن اليوم، في مشهدٍ صغير أمام الكاميرا، انكشفت كل تلك الطبقات من الزيف. لأن من لا يستطيع أن يواجه سؤالًا على الهواء، كيف له أن يواجه أسئلة التاريخ حين يكتب حساباته الأخيرة؟ من لا يجرؤ على مواجهة صحفيٍ أعزل، كيف سيواجه محكمة الضمير الوطني والتاريخي؟
أبو مرزوق لم يهرب من مذيعٍ بل هرب من ذاته. من ذاكرته، من تاريخه، من شواهدٍ تلاحقه في كل زاوية من الوعي الفلسطيني. هرب من صرخة الأمهات في غزة، من أنين الأطفال في الخيام، من العائلات التي دُمرت باسم "المعركة الكبرى" ولم تجد بعدها سوى الركام. لقد هرب من حقيقةٍ يعرفها جيدًا: أن 7 أكتوبر لم يكن نصرًا، بل بدايةً لكارثةٍ دفعت غزة وشعبها ثمنها وحدهم. وأن أولئك الذين قرروا المغامرة دون حساب، لا يملكون اليوم شجاعة الاعتراف بالخطأ، ولا حتى جرأة النقاش.
الهيبة التي سقطت على الهواء لم تكن هيبة الرجل وحده، بل هيبة خطابٍ كاملٍ كان يتغذّى على الغموض والتقديس، على فكرة أن "القائد لا يُسأل" وأن "المقاومة فوق النقد". لكنها لحظة الحقيقة التي لا يمكن فيها الاحتماء بشعارٍ أو راية. لأن كل شعارٍ يسقط حين يعلو فوق الدم. وكل حركةٍ تفقد معناها حين تخاف من مواجهة من تمثّلهم. الشعب الفلسطيني لم يعد ذاك الشعب الذي يُكتفى بتخديره بشعارات النصر والمجد، بل صار يطالب بالوضوح، بالشفافية، وبالمحاسبة. فالمأساة صارت أكبر من الكلمات، والدماء أغزر من الخطابات.
لقد حاول البعض تبرير انسحابه بكرامةٍ جُرحت أو أسلوبٍ مستفز، لكن الحقيقة أبسط وأقسى: لم يحتمل الرجل أن يسمع نفسه وهو يُبرر ما لا يُبرر. لم يحتمل أن ينطق بجملٍ يعرف في داخله أنها فارغة، وأن العالم كله يراها كذلك. لأن من يعايش الهزيمة لا يستطيع أن يخفيها بلغة النصر. في تلك اللحظة، لم يكن موسى أبو مرزوق يمثل نفسه فقط، بل يمثل كل السياسيين الذين احترفوا الكلام عن الوطن دون أن يدفعوا ثمنًا، وكل من استخدموا اسم المقاومة درعًا يصدّون به النقد والمساءلة.
إن الهروب من السؤال هو اعترافٌ بالذنب، كما أن الصمت أمام الكلمة هو نوعٌ من الإدانة. فمن يملك الحقيقة لا يخاف النقاش، ومن يقف على أرضٍ صلبة لا يهرب من المواجهة. ولكن حين يتحوّل السؤال إلى مرآة، تنكشف النفوس التي لا تطيق النظر إلى انعكاسها. وها نحن اليوم نرى بأعيننا كيف تسقط الشعارات التي طالما رفعت، وكيف تنكشف القيادات التي اعتقدت أن التاريخ يمكن أن يُخدع إلى الأبد.
سبعة أكتوبر لم تكن بدايةً للمجد كما رُوّج، بل بدايةً لامتحانٍ أخلاقي وسياسي عظيم، فشل فيه كثيرون وسقطت فيه أوراق التوت عن وجوهٍ طالما احتمت بشعارات البطولة. السؤال عن تلك الكارثة ليس استهدافًا للمقاومة كما يروّجون، بل دفاعٌ عنها من الذين أساؤوا إليها. لأن المقاومة الحقيقية لا تخاف من النقد، بل تتغذى عليه. أما من جعلوا منها غطاءً لحساباتهم السياسية والتنظيمية، فهم الذين شوّهوا معناها وقداستها.
إن مشهد الهروب من المقابلة سيبقى علامة فارقة في ذاكرة الفلسطينيين. ليس لأنه حدثٌ إعلامي عابر، بل لأنه جسّد انهيار منظومة كاملة من الخطاب السياسي الذي يعيش على الإنكار. ففي اللحظة التي غادر فيها الرجل الكاميرا، سقطت معه فكرة أن القادة معصومون من النقد، وأن التاريخ يمكن أن يُعاد كتابته كل مرة على هوى المنتصر الزائف. سقطت تلك الهيبة التي بُنيت على الخوف، على أن الجماهير لا تسأل، وأن من يتكلم باسم الدين أو المقاومة فوق المساءلة.
لقد ولى زمن الخطب التي تملأ الفراغ ولا تغيّر الواقع، وبدأ زمن المكاشفة، حيث يُسأل الجميع: ماذا قدّمتم؟ ماذا جنيتم من الدماء التي سالت؟ ماذا تركتم لأمهات غزة سوى الحزن؟ ماذا حققتم من تلك المغامرة التي انتهت بدمارٍ شاملٍ وبمزيدٍ من الانقسام؟ هذه الأسئلة ليست خيانة، بل هي جوهر الانتماء. لأن من يحب وطنه يسأل، ومن يخاف على شعبه يحاسب، ومن يريد كرامة بلاده لا يخشى الحقيقة مهما كانت موجعة.
ولعل أخطر ما في المشهد أن كثيرين حاولوا تبريره وكأن الهروب شجاعة، وكأن الانفعال بطولة. وهذا أخطر أنواع التضليل، حين تتحوّل الهزيمة إلى بطولةٍ مصطنعة. لا، لم يكن ما جرى بطولة، بل لحظة عجزٍ وانكشافٍ صريح. فالقائد الذي لا يتحمل سؤالًا لن يتحمل مسؤولية. والسياسي الذي يهرب من الحوار سيهرب غدًا من المحاسبة. وما فائدة كل الشعارات حين تنهار أمام أول سؤالٍ حقيقي؟
ما حدث أمام الكاميرا كان أقرب إلى محاكمةٍ شعبيةٍ رمزية، بثها التلفزيون على الهواء، فصدر الحكم بلا قاضٍ ولا هيئة محلفين. لقد حكم الوعي الجمعي على الرجل، وعلى كل منظومةٍ تماثله في التفكير، بأنها لم تعد تملك شرعية الكلام باسم الناس. لأن الشرعية لا تُمنح إلى الأبد، ولا تُكتسب بالصوت العالي، بل تُنتزع بالصدق والمسؤولية.
سنكرر السؤال نفسه، المرة بعد المرة، إلى أن يجيب أحدهم بضميرٍ صادق: ماذا جنيتم من 7 أكتوبر؟ هل تحررت فلسطين؟ هل عاد الأسرى؟ هل انتهى الحصار؟ أم ازداد الجرح اتساعًا، والدم غزارةً، والفقر تجذرًا؟ لا جواب سوى الصمت. ذلك الصمت الذي يقتل أكثر مما يقتل الرصاص. لأن الصمت حين يتعلق بمصير شعبٍ هو خيانة من نوعٍ آخر.
وسنقولها بوضوح: لسنا ضد المقاومة، بل ضد من حوّلها إلى وسيلةٍ للبقاء السياسي. لسنا ضد الشهداء، بل ضد من يتاجر بدمهم. لسنا ضد الصمود، بل ضد من يستخدمه شماعةً لتبرير الفشل. نريد مقاومةً تعرف أن العدل لا يُبنى على التضحية العمياء، وأن الوطنية ليست صكّ غفرانٍ يمنع المحاسبة.
إن ما حدث على الهواء لم يكن فضيحةً إعلامية فحسب، بل كان مرآةً أظهرت عجز القيادات الفلسطينية القديمة عن التكيّف مع وعيٍ شعبيٍ جديد. جيلٌ لم يعد يقبل أن يُقاد بلا سؤال، ولا أن يُخدّر بخطاباتٍ جاهزة. جيلٌ يقرأ ويفهم ويفكك الخطاب، يرى التناقضات، ويطالب بالإجابات. ذلك الجيل هو الخطر الحقيقي الذي تخافه تلك القيادات، لأنه لن ينسى.
سنلاحقهم بأسئلتنا ألف سنة إن لزم الأمر، لأن هذا حقنا الطبيعي كشعبٍ فقد كل شيء مقابل لا شيء. سنلاحقهم بالكلمة، بالذاكرة، وبالحق الذي لا يسقط بالتقادم. لأننا لا نريد انتقامًا، بل نريد حسابًا. نريد أن يعرف كل من اتخذ قرارًا باسمنا دون مشاورتنا أن زمن الوصاية انتهى، وأن صوت الشعب أقوى من كل الميكروفونات الحزبية.
لقد آن الأوان لأن نضع حدًّا لهذه المسرحية الطويلة التي تُسمى "القيادة"، ولنسأل: من يقود من؟ هل القائد من يهرب من الكلمة؟ أم من يواجهها بشجاعة ويعترف بخطئه؟ من يحب وطنه لا يختبئ خلف الميكروفون، ولا يغادر حين يسمع الحقيقة. بل يبقى ليواجهها، ليشرح، ليتحمل مسؤوليته. أما أولئك الذين يغادرون، فهم يغادرون المشهد والتاريخ معًا.
لقد انتهى زمن الخوف. والهيبة التي كانت تُفرض بالصوت وبالقداسة سقطت على الهواء أمام ملايين الشهود. لن تُعيدها بيانات التبرير، ولا جيوش الذباب الإلكتروني، ولا المقالات التي تحاول تلميع ما لا يُلمّع. لأن الصورة كانت أقوى من كل بيان. والوعي حين يستيقظ لا يعود إلى النوم.
هذه ليست قصة موسى أبو مرزوق وحده، بل قصة كل من عاش طويلًا في ظل أوهام القيادة التي لا تُسأل. كل من صدّق أن الشعب أداة في يد الحزب، وأن الوطن مجرد شعارٍ يُرفع حين نحتاجه ونُسقطه حين نشاء. لكنها الحقيقة: سقط القناع، وانكشف الزيف، وبقي السؤال. والسؤال لن يموت، لأنه صار رمزًا للكرامة الوطنية التي لم يعد بالإمكان إسكاتها.
في النهاية، ربما لم يدرك أبو مرزوق أنه حين انسحب من تلك المقابلة، فقد منح الفلسطينيين درسًا أهم من كل خطاباته السابقة. فقد أثبت أن زمن الشعارات انتهى، وأن من لا يملك الشجاعة للحديث لا يملك الحق في القيادة. وأن الهيبة التي تُبنى على الخوف تنهار على أول شاشة، في أول مواجهة مع الحقيقة.
ولهذا، فإننا نقولها بصوتٍ عالٍ: انتهى زمن الصمت. انتهى زمن المزايدة باسم الوطن. ومن يظن أنه يستطيع النجاة بالهروب، فليعلم أن التاريخ لا ينسى، وأن الشعوب لا تُخدع مرتين. في ثلاث دقائق فقط، سقطت الهيبة على الهواء، وسقط معها عهدٌ كاملٌ من التزييف. أما السؤال، فسيبقى يطاردهم إلى الأبد: ماذا جنيتم من 7 أكتوبر؟